د/ محمد محمود القاضي
لا شك أن فعاليات الانتخابات الرئاسية أحدثت حراكا في المجتمع كله وفي وسائل الإعلام خاصة التي وجدت قضية كبرى تأكل من ورائها عيشا لمدة ثلاثة شهور أو أربعة ... والإعلام لم يكن صادقا أبدا مع الشعب في إثارة أية قضية.. إنه يحاول أن يحدث بلبلة ويثير القلاقل في كل اتجاه..
وكم كنت أتمنى أن يظل إخواني وأحبابي في الصف الإخواني بعيدين عن التأثر بالمثيرات الإعلامية في هذه القضية.. وإنني – بكل أمانة - أناشد إخواني أن يقرءوا جيدا هذه السطور التي سأكتبها لآخرها وأنا أكتبها من باب التذكرة مصداقا لقول الله تعالى: (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين)..
فلسنا أيها الأحباب ممن تثيرنا لغة الإعلام والتصريحات التي تنطلق من هنا وهناك.. ولابد لنا أن نزن كل أمورنا بموازيننا الثابتة التي تربينا عليها.. وألا ندع لأهوائنا الفرصة لتقودنا وتجرنا إلى حيث يريد أعداؤنا..
إن المنتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين يحكمه نوعان من الالتزام : التزام عام ، والتزام منهجي، والالتزام المنهجي داخل في إطار الالتزام العام ، ومنبثق عنه ؛ فهو جزء منه ، ولكنه التزام خاص لا يستطيعه كل الناس..
أولا الالتزام العام: إن الالتزام العام خير ما يفسره ويبينه صفات الفرد المسلم التي تحدث عنها الأستاذ البنا في رسالته التعاليم إذ يقول : ومراتب العمل المطلوبة من الأخ الصادق : إصلاح نفسه حتى يكون: قوى الجسم، متين الخُلُق، مثقف الفكر، قادرا علي الكسب، سليم العقيدة، صحيح العبادة، مجاهدا لنفسه، حريصًا علي وقته، منظما في شئونه، نافعا لغيره. وذلك واجب كل أخ علي حدته.
وصفات الفرد المسلم كلها أوصاف قوة واقتداء وامتلاك للقوى: فأولها قوة الجسم
ثم قوة الروح والنفس – متين الخلق – ثم قوة العقل والعلم – مثقف الفكر – ثم قوة الاكتساب للمال والسلطان والجاه – قادر علي الكسب – ثم توجيه كل هذه القوى حسب عقيدة التوحيد – سليم العقيدة – ثم تفعيل القُوى لإصلاح الحياة – صحيح العبادة ، ثم الثبات والاستقامة علي بذل المجهود في إيجاد المطلوب – مجاهد لنفسه – ثم الحرص الشديد علي الوقت بلا تضييع أو تكاسل في واجباته – حريص علي وقته – ولأن الأعمال والواجبات أكثر من الأوقات فلابد من اكتساب صفة التنظيم والترتيب للتغلب على فقد الأوقات أوْ فوات الواجبات – منظم في شئونه – ثم إن المسلم يستثمر كل قواه في طاعة مولاه بمراعاة خلق الله فيجب أن يكون – نافعا لغيره –
وهذه الصفات أساس دائرة الالتزام العام لأن كل إنسان صادق في التزامه بالإسلام يجب عليه أن يحرص على توافر هذه الصفات العشر فيه، وربما كان من غير الإخوان من هو أحرص على الالتزام بهذه الصفات.
أما النوع الثاني من الالتزام فهو الالتزام المنهجي وقوام هذا النوع من الالتزام هو أن يحمل المسلم أعباء العمل للإسلام، وخير طريق لذلك العمل الجماعي وذلك بالانتظام في صفوف الدعوة، وهذا الأمر يتطلب مواصفات معينة في الفرد الذي يقدر قيمة العمل الجماعي ويقدمه على العمل الفردي.
ولذلك كانت البيعة وهي العهد على الطاعة أول ضوابط الالتزام المنهجي.. وكما يقول ابن خلدون في مقدمته: المبايع يعاهد أميره على أن يسلم له النظر في نفسه وأمور المسلمين، لا ينازعه في شيء من ذلك، ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره .
والأخ العامل الصادق لا يشغل نفسه أو يصرف همه في تتبع زلات وعورات إخوانه ؛ لأن حسن الظن بالمسلمين هو الأصل الواجب الاتباع.
وتشكل أركان البيعة التي حددها الإمام البنا معالم الالتزام المنهجي للفرد المسلم المنتمي لجماعته يقول الإمام البنا: أركان بيعتنا عشرة فاحفظوها: (الفهم - الإخلاص - العمل - الجهاد - التضحية - الطاعة - الثبات - التجرد - الأخوة - الثقة).
لقد بدأ الإمام معالم الالتزام المنهجي بالفهم وختمها بالثقة ففهمك يعينك على الثقة التي هي اطمئنان الجندي إلى القائد وكفاءته وإخلاصه، اطمئنانًا عميقًا ينتج الحب والتقدير والاحترام والطاعة.
والطاعة هي الامتثال للأمر .. وإذا لم تحصل الطاعة حلت المعصية والفتنة .. والمؤمن قد تخفى عليه مقدمات الفتنة، فلا يحس بها إلا حيث تقع فعلا .. ولذلك وجب عليه أن يكون محترسًا في جميع أقواله وأفعاله وتصرفاته حتى لا يكون فتنة للذين آمنوا .
والطاعة واجبة ما لم تكن معصية أو تؤدِّ إلى معصية لقول الله - تعالى- : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلاً }.
ومن هنا إخواني الكرام دعونا الآن نتأمل مشهد الرئاسة وموقف الإخوان فيه من خلال هذه النقاط:
- إن ثقتنا في جماعتنا تجعلنا على يقين بأنها حريصة كل الحرص على إعلاء كلمة الإسلام فطالما جاهدت الجماعة وابتليت في سبيل تحقيق هذه الغاية، فالله سبحانه هو غايتنا.
- لم يكن الإخوان في يوم من الأيام حريصين على تولي مقاليد الحكم في أي مكان إنما كان هدفهم هو أن نحكم بشريعة الله، فليس المهم من يحكم ولكن المهم كيف نُحكم.
- إن التفافنا حول جماعتنا ودعوتنا هو تأكيد على قوة الجماعة والملاحظ في الفترة السابقة أن أبواق الإعلام تنفخ بكل ما أوتيت من قوة لإذكاء نار الفتنة وتفتيت الصف الإخواني، والصراع على الرئاسة فرصة كبرى لهم لقياس قوة الإخوان والتفافهم حول قيادتهم فإذا خرجنا من هذه الفتنة ثابتين واثقين في قيادتنا وجماعتنا فوّتنا فرصة عظيمة على أعداء الإسلام والمسلمين لتفتيت أكبر الحركات الإسلامية وأقواها تأثيرا وحرصا على إحياء المشروع الإسلامي.
- إن الاختيار من بين المرشحين ليس اختيارا بين مسلم وكافر وإنما هو اختيار من بين المسلمين ولا نشكك في إسلام أحد أو إيمانه، وإنما الفوارق بينهم في كيفيات العمل لا أساسياته ومنطلقاته، والمرحلة الحالية التي تمر بها مصر مرحلة دقيقة جدا وتحتاج أن نعبرها إلى بر الأمان بأقل الخسائر وأقل التكاليف.
- يحاول الغرب جاهدا تحميل الحركات الإسلامية فشل محاولات الإصلاح في العالم العربي وخاصة مصر، ولا نعجب إذا رأينا بعض المؤسسات الغربية تناصر بعض المرشحين ذوي المرجعيات الإسلامية، ففشلهم في هذه المرحلة يعني فشل المشروع الإسلامي كله بكل من انتسب إليه .
- تعدد المرشحين ذوي المرجعية الإسلامية ليس في صالح المشروع الإسلامي أبدا وهذا ما فطن إليه الغرب.. فلو تصورنا إذا دعي المرشحون ذوو المرجعية الإسلامية للتنازل لأحدهم حرصا علي مصلحة الإسلام فهل سيستجيب أحد منهم لهذا النداء .. ولكن للأسف كل منهم يرى نفسه الأقدر والأجدر للمرحلة المقبلة.
- إن ما يجب أن تصرف إليه الهمم هو وضع الدستور الذي يضبط عمل الرئيس فتكون الرئاسة قالبا محدودا بصلاحيات وضوابط تحكم من يدخل في إطاره فنستطيع أن نحفظ من يتولي هذا المنصب في أي زمان من الانزلاق إلي الفساد.
- ولّى عمر بن الخطاب وهو من هو المغيرة بن شعبة ومعاوية بن أبي سفيان وترك من هو خير منهما من أمثال الزبير بن العوام وبلال بن رباح وطلحة بن عبيد الله وعلي بن أبي طالب؛ لأن المعيار لم يكن قوة الإيمان فقط وإنما الكفاءة والخبرة بإدارة الأمور.
- إن التزامنا وثقتنا في جماعتنا التي تربينا على يد قادتها ووثقنا فيهم واختبرنا إخلاصهم تفرض علينا أن نجدد لها الثقة وأنه ليس للجماعة مصلحة في اختيار هذا وترك ذاك إلا ما ترجوه من مصلحة مصرنا الحبيبة.
- مرت بنا مشكلات كثيرة وكنا نرى أن رأينا يخالف الجماعة وألقينا باللوم على الإخوان وبعد أن تكشفت الأمور تبين أن رأي إخواننا كان هو الصواب.
- من يقرأ صلح الحديبية يجد أن الحماسة – أحيانا- تطغى على صوت العقل فعمر – رضي الله عنه – أخذته الحماسة وقال: ألسنا على الحق وهم على الباطل فعلامَ نعطي الدنية في ديننا؟ لكن أبا بكر كان يزن الأمور بميزان آخر وقال : يا عمر إنما هو رسول الله ، فالزم غرزه!! ولسنا نزعم أن في الإخوان الآن من هو في منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوحى إليه لكن نشير إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تنازل في صلح الحديبية لتحقيق مصلحة أكبر، ومقرر عند الأصوليين أنه حين تتعارض مصلحتان نختار أكبرهما وحين تتعارض مفسدتان نختار أقلهما ، وأن الضرر القليل يحتمل لتحقيق مصلحة كبرى.
- حرص الإخوان على الشورى يحقق البركة من الله والاهتداء إلى الصواب كما أن كدر الجماعة خير من صفو الفرد ، وأن العقول الكثيرة التي التزمت بقرار الإخوان لا يمكن اتهامها بقلة العقل وأنا الوحيد الذي أمتلك رجاحة العقل أكثر من هؤلاء جميعا.
- لا يجب التعويل على الأشخاص في مثل هذه المناصب، فمهما كان ظاهر الفرد طيبا ويبدو صالحا لهذا المنصب فمن يضمن أن يظل على عهده وفيا منضبطا والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، ومنصب الرئاسة له بريق عظيم فعن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: قلت يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: "يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها".
إخواني الكرام لا تتركوا هوى النفس يحكم تصرفاتنا وقراراتنا، نحسب –ولا نزكي على الله أحدا- أن كل من رشح نفسه للانتخابات من ذوي المرجعية الإسلامية على خير ولا نشكك في أحد منهم نحترمهم جميعا ونقدرهم، ولكننا نقدر جماعتنا ونحترمها ونطيع قادتنا ونثق فيهم ولا نشكك في نياتهم. ولا يمكن لعاقل أن يترك العمل للإسلام في إطار جماعة مخلصة راشدة بإذن الله من أجل نصرة شخص مهما كان لأننا تعاهدنا أن ننصر ديننا ودعوتنا وننشد الخير لأمتنا، ونثق كل الثقة فيما يصدر عنهم من قرارات واختيارات والله بصير بما يعملون.
_____________

