د/ أشرف نجم
"باتريك جيه بوكانن" .. كاتب استثنائي بكل المقاييس، فقد عمل مستشاراً لثلاثة من الرؤساء الأمريكيين، بل وخاض بنفسه سباق تسمية المرشح لمنصب الرئيس عن الجمهوريين مرتين في عام 1992 و 1996، وأكثر من ذلك ترشح للرئاسة الأمريكية عن حزب الإصلاح في العام 2000 ... خبير هو إذا بعالم السياسة ومطلع على تفاصيل المجتمع الغربي عامة والأمريكي خاصة.
وهو محترف أيضاً في عالم الكتابة والتأليف والإعلام، فله أكثر من ستة كتب منها كتابان من أكثر الكتب مبيعاً في أميركا، كما أنه كاتب لعمود صحفي ينشر في عدة صحف، وعضو مؤسس لثلاثة من أشهر برامج التلفزيون على محطتي "إن بي سي" و "سي إن إن".
أمريكي أبيض هو من أصول أوروبية، غير أنه صريح العبارة صادق اللهجة، لا يجامل الحضارة الغربية، ولا يغض الطرف عن عيوب المجتمع في الغرب وما يحيق به من أخطار، لذا أثارت كتاباته وتصريحاته الكثير من الجدل في عالم السياسة والثقافة على حد سواء ... والكتاب الذي بين أيدينا نموذج لذلك.
في خطاب من أكثر الخطابات إثارة للجدل في القرن العشرين قال "بوكانن" في خطابه للمؤتمر الوطني للحزب الجمهوري المجتمع في "هيوستن" عام 1992: "إن هذه الانتخابات تدور حول من نكون نحن .. هناك حرب دينية تقوم في بلادنا من أجل روح أميركا، إنها حرب ثقافية ستحسم أي نوع من الأمم سنكون يوماً ما، مثلما كانت الحرب الباردة حاسمة بالنسبة إلينا" ... أشعلت هذه الكلمات عاصفة لم تهدأ طوال ثمان سنوات بعدها، وقيل عنها أنها كانت "مـُـفـَرِّقـَة ومفعمة بالكراهية" ... وعلق "بوكانن" قائلاً: "لقد كانت مـُـفـَرِّقـَة.. ومفعمة بالحقيقة".
هذا هو الكاتب ... أما الكتاب فعنوانه ينطق عنه "موت الغرب" .. قالت عنه صحيفة "الواشنطن تايمز": "الكتاب الذي هز الأمة .. إنه نظرة ثاقبة لا تهاب، يروي بالتفصيل كيف أن النظام الثقافي والأخلاقي للحضارة الغربية يودي بها إلى الموت ... ويتنبأ بنظام جديد للعالم يحمل في ثناياه تفاصيل مرعبة ... إنه دراسة جاءت في حينها، وهي استفزازية تطرح بهدوء السؤال الذي يزعج الملايين: هل أميركا التي ترعرعنا فيها قد ذهبت إلى الأبد؟"
يقع الكتاب في أكثر من 500 صفحة من القطع المتوسط، وقد ترجمه للعربية "محمد محمود التوبة"، وراجعه "محمد بن حامد الأحمري" .. وطبعته "مكتبة العبيكات" في طبعة أنيقة ... وأنا الآن أضعه بين أيديكم في مقالاتي هذه عسى الله أن ينفع به.
الأرقام ... لا تكذب
"الأوربيون أنواع تتلاشى" ... هكذا قالت صحيفة "تايمز" اللندنية، ولكنها لم تبن هذا الزعم على تخمين أو توقع، بل على دراسات اجتماعية وإحصاءات سكانية علمية .... ففي عام 1960 كان الرجل الأبيض في أوروبا وأميركا وأستراليا يشكل ربع سكان العالم (750 ألف من 3 بلايين) ، وفي الوقت الذي تضاعف فيه سكان العالم خلال 40 سنة إلى 6 بلايين نسمة، توقفت الأجناس الأوروبية عن التكاثر، بل وتناقص بعضها بشكل واضح، حتى أصبح الرجل الأبيض في العام 2000 لا يشكل أكثر من سدس سكان العالم (728 مليوناً).
من بين الأمم الأوروبية السبع والأربعين في العالم، هناك أمة واحدة فقط كانت وما تزال تحتفظ بمعدل مواليد كافٍ ليبقيها حية ... تلك هي "ألبانيا" المسلمة ... أما باقي الأمم فبدأت تموت ... هل يخبركم هذا شيئاً؟!.
هذا عن الماضي ... فماذا عن المستقبل؟ ... الحق أن المستقبل يبدو أشد تجهماً من الماضي، فتوقعات علماء الاجتماع والإحصاء تشير إلى أن عدد سكان العالم سيغدو 9 بلايين في العام 2050، غير أن كل هذه الزيادة ستأتي في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، بينما سوف يتلاشى عن ظهر الأرض مائة مليون من الأصول الأوروبية .. ليشكل الرجل الأبيض فقط عشر سكان العالم (556 مليوناً)، وليشكل الأطفال تحت الخامسة حوالي 2-3% فقط من المجتمعات الأوروبية، بينما سيكون 40% فوق الخامسة والستين.
أما إذا مددنا الخط البياني إلى آخر القرن فإن 50% من الجنس الأبيض سيلاشى ليصبح 207 مليوناً فقط.
السر يكمن في ... " الأســرة "
لكن ... لماذا يتناقص الجنس الأوروبي بينما يتزايد غيره؟ ... ترى أستاذة الاقتصاد بجامعة هامبولت بكاليفورنيا "جاكلين كاسون" أن السبب المباشر لذلك هو هبوط متوسط معدل الخصوبة عند المرأة الأوروبية إلى 1.4 طفل لكل امرأة، بينما تدعو الحاجة لنمو أي مجتمع أن يكون المعدل على الأقل 2.1 طفل لكل امرأة ... إن من أصل عشرين أمة صاحبة أخفض معدلات الولادة في العالم هناك 18 أمة في أوروبا.
مرة أخرى ... لماذا يحدث هذا؟ .. بمعنى "لماذا توقفت الأوربيات عن الإنجاب؟" ... يعدد الدكتور "جون والاس" من جامعة "جونز هوبكنز" الأمريكية بعض ما يراه من أسباب: "إذا كان لدى كل مواطن وعد بأن يحصل على تقاعد مريح من الدولة فإن الأطفال لا يمثلون تأميناً في الشيخوخة، وإذا كانت النساء قادرات على أن يكتسبن أكثر من كفايتهن ليكن مستقلات مالياً فإن الزوج لا يبقى بعد ذلك أساسياً، وإذا كنت تستطيع أن تمارس الجنس أيضاً دون زواج فلماذا تتزوج وتنجب؟.
وأقول ... إذا كانت فلسفة الحياة في "العالم الأول" قد تم اختزالها في "اعتصار اللذة" بمعنى التمتع بكل ما تستطيع من اللذات فليس لك إلا فرصة واحدة هي التي تحياها، فلماذا تعول شريكاً للحياة وتنفق وقتك ومالك وعمرك لتربي أطفالاً؟ ... وإذا كانت قدسية فكرة الأسرة قد انزوت مع انزواء الدين – أي دين – من المجتمع، فما الذي يدفع للتضحية في سبيل تكوين أسرة؟.
"غابرييي ثانهيسر" عمرها أربعة وثلاثون عاماً، وتعمل في بنك في برلين، وتقضي أجازتها في روما مع صديقها الذي تساكنه وتعاشره .. لما سألناها لماذا لا تنجب أطفالاً قالت: "السبب هو أنني أحب أن أنام، وأحب أن أقرأ كثيراً، وأستطيع أن أنام طوال الليل" .. ويؤكد ذلك صديقها "أندرياس غيرهمان" فيقول: "نحن اثنان بدخل مزدوج من دون أطفال فلماذا ننفق على ثالث أو رابع؟".
في مسح اجتماعي أجرته مجلة "نوا" الإيطالية وجد أن 52% من النساء الإيطاليات البالغات من العمر بين 16 عاماً وعشرين عاماً لا يرغبن في إنجاب أطفال، وقد خططن لذلك في المستقبل ... فإذا كان هذا في "روما" الكاثوليكية" المحافظة، فما بالك بالوضع في بريطانيا وأميركا وكندا الأكثر علمانية؟!
لقد استطاع الأوربيون تحرير الجميع من مسئوليات الأسرة، فاجتثوا بذلك الحاجة إلى الأسر، وبناء عليه بدأت الأسر تختفي ... وعندما تذهب الأسرة تذهب أوروبا معها.
يقول الدكتور "بييربولو دوناتي" المفكر الكاثوليكي البارز وأستاذ علم الاجتماع في جامعة "بولونا": "إن يسر الرخاء قد خنقنا، ورفاهية الترف هي الآن الشيء الوحيد الذي يؤمن به الرجل الأبيض، وصارت أخلاق التضحية من أجل الأسرة – وهي إحدى الأفكار الأساسية للمجتمع الإنساني – فكرة تاريخية من الماضي .. إنه لأمر مذهل حقاً".
هل أدركنا الآن سر الهجمة الشرسة من الرجل الأبيض – متنكراً في زي الأمم المتحدة – على العالم الثالث بسلسلة من "مؤتمرات الأسرة والسكان" محاولاً تصدير مرضه القاتل للأسر إلينا؟!
لكن ... هل موت الغرب أمر لا مناص منه؟ ... وهل انقراض الأسرة هو السبب الوحيد لذلك؟ ... هذا ما سنحاول إلقاء الضوء عليه في مقالنا القادم إن شاء الله.
__________
[email protected]
طالع أيضاً:

