د/ محمد محمود القاضي
شاءت الأقدار أن ألتقي بالأستاذ الدكتور محمود حسين منذ بضعة شهور، فسألته قائلا: ما هي استراتيجية الإخوان في الفترة القادمة في التعامل مع الطوائف الآتية:
- المتهافتون على الانضمام إلى الجماعة من عموم الناس.
- العائدون إليها من أبنائها الذين تركوها في أيام محنها.
- المعادون لها.
- المنشقون عنها من أبنائها.
فأجاب سيادته إجابة وافية على السؤال إجابات أقنعتي وطمأنتي على مسيرة الجماعة المباركة في الفترة القادمة، ولكنه فاجأني قائلا: وكم كنت أتمنى أن تسألني عن صنف خامس أراه الأخطر والأجدر بأن نوجه إليه اهتمامنا، وهم المشتاقون المتطلعون إلى الكسب والمغنم من أبناء الصف، وخاصة بعد الانفراجة الشديدة التي يعيشها الإخوان بعد سنوات من الاضطهاد والاعتقالات من الحكومات المتعاقبة..
انزعجت بادئ الأمر من وجود هذا الصنف، وبينما كان الأستاذ يشرح بعض التصورات حول هذا الصنف سرحت في موقف المسلمين بعد غزوة بدر واختلافهم في توزيع الغنائم.. ولما احتكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في كيفية توزيعها نزل الذكر الحكيم يعلم ويربى ويرشد المؤمنين إلى الطريق الصواب، فيحكم أولا بأن هذه الغنائم إنما هي لله تعالى صاحب القدرة المطلقة وصاحب النصر على الأعداء: (وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) وفى الآية الأربعين من سورة الأنفال تأتى طريقة توزيع الغنائم ولكن بعد أن صحح المسار وأعاد الصف المؤمن إلى حقيقة الإيمان.
وتوالت الأيام وبدأت تطفو على السطح بعض تصرفات من أولئك المنشقين عن الجماعة أو المتطلعين ممن بين صفوفها تعكس تصرفاتهم اعتزازا بالرأي وتقديرا منهم لشخصياتهم وتزكية لها ويرى كل واحد منهم في نفسه كنزا مكنونا آن الأوان أن يعم خيره الناس..
والحق يقال: إن كثيرا من هؤلاء لهم قيمتهم ومكانتهم ولا يستطيع أحد أن ينكر هذا.. ولكن هناك معنى تربوي يجب أن يكون واضحا في الأذهان.. وهو أن المرء مهما بلغت قدراته وإمكاناته ومهاراته فهو قليل بنفسه كثير بإخوانه.. ولله در موسى عليه السلام عندما أرسله ربه إلى فرعون فاستشعر موسى عبء الأمانة وثقل الرسالة ولابد له من العون فطلب من ربه تعالى أن يرسل معه أخاه هارون (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى. قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي. وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي. يَفْقَهُوا قَوْلِي. وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي. هَارُونَ أَخِي. اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي. كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا. وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا. إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا. قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى)
إن من أسرار قوة جماعة الإخوان المسلمين وصمودها في وجه كل الصعاب التي قابلتها وحدة الصف وعمق رباط الأخوة بين أفرادها.. ومن أدبيات الجماعة المعروفة والمشهورة:
القول المنسوب لبعض السلف "كَدَرُ الجَمَاعةِ خَيْرٌ مِن صَفْو الفُرْقَةِ" والذى يروى بلفظ آخر: "كدر الجماعة خير من صفو الفرد".
وأنا أريد أن أتوقف قليلا عند هذا الأثر لما فيه من معان جميلة جديرة بالتدبر.. ولكن لابد من توضيح حتى لا نحمل هذا الأثر أكثر مما يحتمل وحتى لا يظن ظان أن مقصوده ترك النصيحة وأنَّ الباطل في الجماعة خير من الحق فردًا. أقول: إن هذا التفسير معارض بنصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد قال الله -عز وجل: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) وقال: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) وقال:) وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (.
فالله عز وجل لم يأمرنا بأن نجتمع على الباطل أو أن نسكت عليه، بل أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الحرص على الجماعة والألفة وترك التفرق ما وجدنا إلى ذلك سبيلا، ولذا قال الله عز وجل في كتابه العزيز: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
وذم الله سبحانه مَن لم يقبل البينات والهدى وحاد عن الطريق المستقيم، فهم أسباب الفرقة حقًا، قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ . وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ).
فانظر كيف أمر سبحانه أولاً بإقامة الدين وعدم التفرق فيه، ثم بيَّن أنَّ المخالفين للحق لم يكن تفرقهم لجهلهم بالحق بل قد أقام الله عليهم الحجة وأبان السبيل، ثم قال موجهًا نبينا عليه الصلاة والسلام إلى الحل والمخرج فقال سبحانه: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) فأمره بأن يدعو للحق وأن يستقيم عليه وأن يترك ما عليه أهل الأهواء ولم يقل له سبحانه: اسكت عنهم واجتمع معهم على الباطل. بل زاد سبحانه على هذا فقال: (وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) فهذا إظهار للحق والجهر به وبيان المفارقة والمنابذة لسيرهم.
أقول هذا الكلام حتى أقطع الطريق على من يظن عدم فهمي لمقصود الأثر أو توجيه توجيها غير دقيق..
وتعالوا نتحدث في ضوء هذا الأثر: يقول كدر الجماعة: لم يقل ضلال الجماعة أو انحرافها عن الحق، وإنما قال : كدر. والكدرة عكارة قليلة تعكر صفو الماء، أو شيء قليل جدا من السواد يصيب الثوب الأبيض الناصع.. فالماء الكثير لا يفسده الكدر القليل، والثوب الأبيض الناصع لا يقلل من قيمته اتساخ ضئيل قد لا يرى بالعين المجردة.
فما يصدر عن الجماعات الكبيرة من تصرفات وأفعال وأعمال وأقوال لا ينبغي أن ينظر إليها بالتلسكوبات المقربة أو الميكروسكوبات المكبرة فليس هذا من الحكمة في شيء.. وخاصة في الأفعال والتصرفات التي تسيّر أمور البشر وحوائج الناس تلك الأمور التي وضع لها الشرع ضوابط عامة تحكمها وترك إجراءات تسييرها لاجتهادات البشر.. وهذا ما تميز به الإسلام وجعله صالحا لكل زمان ومكان..
وصفو الفرد أو صفو الفرقة مهما كان فهو صفو متوهم لأنه محدود بمحدودية الإنسان .. وليس معنى أن إنسان ما متميز في شيء أنه يحسن كل شيء فليس هناك في هذه الدنيا من يحسن كل شيء .. وإلا لما شرع الله الشورى وأمر بها ودعا المسلمين إلى التمسك بما تؤول إليه الشورى مهما كانت نتيجتها.. فالشورى التي فعلها الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أحد لم تكن نتيجتها في صالح المسلمين من الناحية الحربية.. ولكن لما نزل القرآن الكريم يفند ما حدث يوم أحد ظهر أن للشورى بركتها في تنقية الصف وتربيته على القيم الإيمانية.. فكانت هزيمة المسلمين الحربية انتصارا في مجال التربية الإيمانية.. كانت هزيمة أعقبتها انتصارات كثيرة وفتوحات عظيمة.. ولو حدث أن انتصر المسلمون في أحد على الرغم من علات كانت موجودة فيهم ما تحقق لهم أي انتصار بعد ذلك.. إذن الشورى ترتب عليها هزيمة بطعم النصر.. وما أعظمه من نصر عندما ننتصر على نفوسنا ونقوم اعوجاجها ونصحح مسارها..
أليس من صفو الفرد أن قال إبليس عندما أمر الله الملائكة أن تسجد لآدم: (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ) لقد أحس إبليس بذاته.. وبأفضليته المتوهمة على آدم فوقع في المعصية والعصيان الذي لم يكن بعده رجعة..
إن العيش في ظل الجماعة يذوب فيه الإحساس بالذات فالكل يعمل لغاية واحدة وهدف واحد .. كل فرد له قيمته ومكانته ودوره الذي لا يحسنه غيره .. ويسد أخوه خلته ونقصه في ناحية أخرى.. فاليد الواحدة لا تصفق.. والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا..
وأقول للعاشقين المتطلعين إلى المناصب والمكانة المرموقة لقد عاهدتم الله يوم انضمامكم لهذه الجماعة على التجرد وإنكار الذات والعمل لدين لله تعالى في أي مكان وفى أي موقع.. فلم اليوم تنقضون عهودكم وتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير.
إن الذي يلتحق بركب الدعوة، عليه ألا يتوقع رئاسة، أو منصبًا ما، فضلا عن أن يسعى
إليه ويفرح به، إنما يجب أن يوطن نفسه من أول يوم يضع فيه قدمه على باب الدعوة،
بأن يكون جنديًا لها، فإن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في المقدمة كان في
المقدمة، ليس له هدف سوى مرضاة الله، إنما يحدث التعثر إذا التفت الإنسان لغير الله، وحدثته نفسه بأمر من حظوظها. ولهذا السبب جعلها الرسول صلى الله عليه وسلم واضحة وضوح الشمس للذين بايعوا بيعة العقبة الأولى والعقبة الثانية بقوله: "فإن وفيتم فلكم الجنة " فلم يعدهم بمنصب ولا بجاه ولا بمال، أو بأي لون من ألوان الدنيا، إنما علقهم بالآخرة، لترتفع نفوسهم وآمالهم، وهممهم من وحل طين الدنيا، إلى السموات العلا.
ويمدح الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الصنف من الدعاة، الذين ليس لهم سوى رضا الله سبحانه وتعالى، وبالتالي فليس مهمًا لديهم مواقع عملهم سواء كانت في المقدمة أو المؤخرة، وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "طوبى لعبدٍ آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع" (رواه البخاري).
يقول ابن الجوزي: المعنى أنه خامل الذكر لا يقصد السمو، فإن اتفق له السير سار، فكأنه قال:
إن كان في الحراسة استمر فيها، وإن كان في الساقة استمر فيها.
ويقول ابن حجر: "فيه ترك حب الرئاسة والشهرة، وفضل الخمول والتواضع".
هذا الصنف من الدعاة هو الذي تنجح الدعوة به، أما المتطلعون للرئاسة والمناصب
والشهرة فإنهم من دون شك يكونون أحجار عثرة في طريق الدعوة.
ولا يفوتني أن أوجه كلمة لصنف آخر ترك الجماعة في أيام محنتها وانهال عليها سبا وشتما في المقالات والإعلام وزين لهم الشيطان أعمالهم، فلما فرج الله كربة الجماعة وآمنها الله بعد خوف نراهم اليوم يسارعون إليها ويحومون حولها ويمجدون قادتها.. أقول لهؤلاء: إن سجلات التاريخ تحتفظ بكل كلمة تخرج من فم الإنسان وقبل كل ذلك رب العزة لا يغفل ولا ينام ولا يضل ربى ولا ينسى فترفقوا قليلا بأنفسكم فما أظن عودتكم إلا طمعا في مغنم لتنضموا إلى قافلة الطامعين المشتاقين.. ليس من حقي أن أغلق باب الإنابة والرجوع في وجه أحد.. ولكن يجب على من أراد أن يعود إلى البيت الذي خرج منه وشهر به في يوم ما أن يقدم الدليل القاطع على صدق نيته في العودة والأوبة.
اللهم إنا نسألك ألا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.. وأن تثبتنا على الحق .. يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك.. يا مصرف القلوب والأبصار صرف قلوبنا إلى طاعتك.
________

