10 / 03 / 2011
حازم سعيد :
بداية لابد من توضيح أن سقوط أمن الدولة لم يكن يوم الجمعة الماضى .. وكذلك فإنه لم يكن فى بداية هذه الثورة المباركة ..
وإنما جاء السقوط منذ أول مظلمة ارتكبها هذا الجهاز البشع فى عهد مبارك ، ثم تأكد السقوط مع كل مظلمة جديدة كان يرتكبها رجال هذا الجهاز المأساوى الذى سوف يسجل التاريخ للأجيال القادمة أنه الجهاز الذى سجن المصريين فى سجن كبير هو وطنهم لعقود عديدة من زمان مبارك الفاشى .
ذلك أن الله سبحانه قد قدر أن يقيم الدولة العادلة ولو كانت كافرة ، ويكسر الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة ، فما بالك إذا اجتمعت أفعال الكفر مع الظلم ، لا شك أنه إيذان بزوال مملكة الظالم ، وهى هنا أمن الدولة ، ألم يأتكم خبر الأوامر المتتالية للمعتقلين الإسلاميين بالسجود لصورة مبارك ، أوليست هذه أفعال الكفر ، إضافة إلى المظالم التى تعرفونها أكثر منى ، ليستحق الجهاز سقوطاً وانهياراً نالهما بجدارة لا ينافسه فيهما أحد .
وعموماً فالمقالة تتحدث عن الأسبوع الأخير لجهاز أمن الدولة وكيف انهار وتهاوى - كالزبد جفاءاً - حتى لم يحتاج لأن ينفخ فيه فسقط هو وضباطه المذعورين - كالفئران - فى جحورها حين تسمع صوتاً .. أى صوت .. هكذا كانوا .. فلله الحمد والعزة من قبل ومن بعد .
نتائج ودلالات
نستطيع أن نضع بعض العناوين ونستخلص منها نتائج ودلالات لهذا السقوط المزرى فى النقاط التالية :
1. يأتى هذا السقوط الأخير والانهيار كضمان حقيقي وتأكيد قاطع على نجاح ثورة الشهداء المعروفة بـ 25 يناير ، وهو تتويج لدماء شهداء هذه الثورة ، ونتيجة حتمية - قدرها الله - لجهاد وإخلاص ملايين من رجال هذه الأمة ونسائها وشبابها ، عاشوا أيام تجرد وصدق وإخلاص ، فكافأهم الله سبحانه بهذه النتيجة الرائعة المبهرة التى أثلجت صدور قوم مؤمنين وأذهبت غيظ قلوبهم من هذا الجهاز وظالميه وجلاديه .
2. يثبت هذا السقوط أن الدول الديكتاتورية القمعية والتى تعتمد السياسة الأمنية الغليظة ، هى فى النهاية نظم فى غاية الهشاشة ، تسقط وتتهاوى لأدنى صيحة ، هكذا حدث بروسيا ، ولا ينسى جيلنا ما حدث بجلاد رومانيا حين قتله قومه فى حديقة منزله ، إن الدولة القمعية البوليسية الديكتاتورية هى فى النهاية دولة هشة مفككة ، لا تجد لها أركاناً تدعمها حين تحتاج إلى أركان ، ولا تستطيع أن تتترس بشعبها إن هى احتاجت إلى شعب ، بل إن شعبها هو الذى يثور عليها وينهى سطوتها .
وكذلك لا تحسب أن الشعوب التى تعانى القهر والظلم والخسف تموت ، بل إن الضربة التى لا تقتلك تقويك ، هكذا أثبت المصريون الذين سجنهم أمن الدولة وعذبهم وسامهم القهر فكان ردهم أن قوى عودهم واشتد وكان أن حاصروا جهاز أمن الدولة فى ختام ملحمة الثورة التى بدؤوها فى 25 يناير وأنهوا فيها سطوة أمن الدولة إلى الأبد أيام 4، 5 ، 6 مارس ..
3. كلما اشتد بأس الظالم وقوى عوده وزاد من بطشه وظلمه كلما علمت أنه اقتراب الانهيار ، ولكم لتتحققوا ذلك أن تسترجعوا مدى البطش والقسوة والسيطرة والقهر التى اتسم بها جهاز أمن الدولة فى أواخره لدرجة أن أصبح يتحكم فى نفس المواطن المصرى ..
فبداية من القتل داخل السجون وداخل مقابر أمن الدولة ، ومروراً بالتعذيب المأساوى ، ومروراً بالمراقبات الفجة ومنها التنصت الهاتفى ، والتجنيد لكثير من عناصر الشعب حتى أنهم لم يكن يخلو منهم مؤسسة ولا شارع ولا هيئة إلا ولهم فيها عناصر مجندة ومتعاونة ، حتى التليفون لم يسلم من رقابته أحد ، وانتهاءاً بالتحكم فى وظائف الناس وتعييناتهم بالجامعات والهيئات حتى تعيينات مقيمى الشعائر بالمساجد تحكموا فيها ، حتى الترقيات خضعت لهم لدرجة أن يستبعد الملتحين والمنتقبات من ترقياتهم المستحقة لا لشئ إلا لأنهم ملتحين أو منتقبات دون النظر لكفاءتهم الفنية ، هل يوجد جبروت وسيطرة وتكبر أكثر من هذا !
ثم يأتى السقوط المزرى فى أقل من شهر ليتفكك الجهاز وينهار فى يوم ونصف ليؤكد ما أزعمه قاعدة ، أنه كلما ازداد بطش الظالم ، كلما كان ذلك إشعاراً بقرب نهايته .
الشئ بالشئ يذكر ها هنا حين أذكركم بمؤتمر المنتفش عز ورفاقه هلال والشريف وهم يستعرضون عضلاتهم فى كبر وتغطرس ويتحدثون على مدار ساعتين إلى ثلاثة ساعات عن قهرهم للمحظورة فى انتخابات 2010 .. ليتهاوى عرشهم كبيت العنكبوت فى أقل من ثلاثة شهور بعدها .
4. إن الله يملى للظالم ، حتى إذا أخذه لم يفلته .. هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلمتنا الشريعة الإسلامية الغراء ، ألا نستعجل فى الدعاء على الظالم ، وألا نستأخر نصر الله للمؤمنين ، وألا نبحث فى بواطن حكمة الله سبحانه فى حلمه وإمهاله للظالم .
وكم مرت علينا من أيام وليالٍ وسنين ونحن نتعرض للظلم والقهر الشديد ، بين اعتقالات ومحاكمات عسكرية وبطش وتنكيل وشهداء ، وكل يوم وليلة تضيق بنا بعض نفوسنا من تأخر النصر أو إمهال الله لأولئك الظالمين ، حتى أن بعضنا لم يكن يحلم أبداً بما أقر الله به أعيننا من النصر واندحار أولئك الظالمين ، وكنت شخصيا ًأظن أنى سأموت قبل أن أرى هذه النهاية العجيبة التى لم تتحقق إلا بقدر الله سبحانه وحكمته .. فلك الحمد يارب ، ولك العز يا رب ، ولك الملك يا رب .
5. التناقض الرهيب بين الحالة التى كان يظهرها ضباط أمن الدولة لنا - نحن مطاريدهم - أثناء الاعتقالات أو المقابلات والاستدعاءات الأمنية .. وبين الحالة التى ظهروا عليها آخر يومين من عمر هذا الجهاز البائد ، هذا التناقض يؤكد حجم ما ارتكبوه من جرائم رهيبة لدرجة تيقنهم أنهم لو خلص لهم الثوار فلسوف يقتلونهم ، بدا هذا جلياً من سلوك ضباط الإسكندرية الذين برصاصاتهم الحمقاء أججوا نار الغضب التى لم يكن ينقصها شئ ضد هذا الجهاز ليثور الناس فى كل مصر ويحاصروه ويجهزوا عليه .
وبدا هذا واضحاً أيضاً من إتلافهم الهستيرى لمستندات الجهاز بالحرق والفرم والتهريب والدفن .
6. كذلك أظهر هذا التناقض بين الحالتين عدم استوائهم النفسى ، وقد نادى من قبلى محللون بضرورة عرض أشباه أولئك الظالمين على أطباء نفسيين ، فما كان يحدث منهم من قبل وفى عز سطوتهم وجبروتهم ، ثم ما حدث من انهيار سريع جداً واستسلام عجيب وذعر يثبت أنهم مرضى نفسيين لابد لهم من علاج حتى يصبحوا أسوياء يمكن أن يعيشوا داخل جدران هذا الوطن ، لمن لن يثبت القضاء والمحاكمات العادلة جرائم لهم ، أما من يثبت جرمهم ، فمكانهم الطبيعى هو العزل داخل السجون ، وتكون فرصة لاستشفائهم مما هم فيه من أمراض .
7. الجرائم الرهيبة التى ظهرت وتظهر بعد انهيار الجهاز من تصنت ومن مستندات فضائحية ومن مقابر تحت مقار الأجهزة وهى بلا شك لمعذبين وقتلى تحت التعذيب بهذه المقار كدمنهور وكمدينة نصر ، وكذلك الموجودات بالمقار مثل الغرف الداخلية التى بها جاكوزى وروب حريمى وخلافه ، وأدوات التعذيب المختلفة ، كل ذلك يبين من ناحية حجم المظالم التى قام بها الجهاز ، ومن ناحية أخرى يؤكد ويترك دلالة قاطعة على عدم إمكانية تقبل مثل هذا الجهاز فى الحياة المصرية أبداً ، حتى لو تم إعادة هيكلته ، وحتى لو سموه بأسماء أخرى ، فلن نتقبله نحن المصريين أبداً ، وأنصح إخوانى الثوار أن ينتبهوا لذلك ..
نعم لا يمكن أن نقبل هذا الظلم مرة أخرى أبداً ، تحت أى مسمى من المسميات .
8. الإتلاف العمدى المتواتر فيما هو مبيت بليل ومدبر يؤكد حجم الجرائم التى ارتكبوها ، وهو ما يدعم الثوار فى مطلبهم بالإصرار على محاكمتهم ، ويلزم الجهات المختصة والمجلس الأعلى العسكرى بمحاكمتهم وعقابهم بأقصى العقوبات ، وذلك بتهمتين : الأولى تدمير مستندات تخص الأمن القومى المصرى ، والثانية تتمثل فى دلالة الإتلاف على جرائم يخفيها المجرم ، فحتى لو باتت الجرائم التى أخفوها مجهولة ، إلا أنه أصبح مستقراً فى اليقين أنها جرائم فلابد أن يحاسبوا عليها ويحاكموا من أجلها وبأقصى العقوبات ، وهو مطلب لا أظن أن الثوار الأحرار سينفكوا عنه .
9. المستندات الباقية والتى لم يتمكن الجناة من إتلافها لابد من تحليلها ودراستها من قبل من يهمه الأمر ، سواءاً كانوا جهات رسمية للتحقيق فى الأمر واتخاذ اللازم ، أو سواءاً كانوا قوى وطنية حرة يهمها شأن هذا البلد ، لاتخاذ احتياطاتها مما كان يدبره أولئك الجناة فى الخفاء ، أو لمداواة آثار الفساد والإفساد والخلل الذى أحدثوه فى بنية بلدنا مصر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، وعلاج نتائج سياسات هذا الجهاز التخريبية .
10. أثبت هذا الانهيار السريع للجهاز وسقوطه فى هذه الهاوية السحيقة فشل الميزانيات المالية الرهيبة التى وجهت له والإنفاق الذى تم عليه بالمليارات كى يحاصروا بلدى مصر وقواها الوطنية ، وفى النهاية فشل الجهاز وتهاوى ، وبقيت مصر ، وبقيت القوى الوطنية الشريفة التى طالما حاربوها ، ويعطينا هذا درساً بليغاً لإعادة ضبط ميزانية الدولة وتنسيب النفقات فيها بما يحقق الأمن الحقيقى للبلاد بدءاً من رعاية التعليم والبحث العلمى ومرورا ًبالصحة والغذاء وتأمين سلامته للمواطنين كى لا يسبب لهم الأمراض والسرطانات ، وهذا هو الأمن الحقيقى ، ثم يتبقى بعد ذلك الجزء الأقل للأمن الشكلى المظهرى المتمثل فى أجهزة الأمن والشرطة ، وليس كما فعله الطغاة بجعل ميزانية الداخلية وأمن الدولة تعادل تسعة أضعاف ميزانية التعليم والبحث العلمى والصحة مجتمعين وخاصة فى العقد الأخير .
11. أكثر من ضحى طوال الثلاثين سنة من عمر هذا الجهاز القمعى وعانى ويلاته هم الإسلاميون عموماً والإخوان خصوصاً ، ثم يأتى هذا الانهيار والفشل والجرم بإخفاء المستندات وحرقها ، ليؤكد عدم مصداقية هذا الجهاز وكذبه وتضليله للرأى العام والناس ..
هذه المقدمة لأقول أنه قد آن لكل القوى الوطنية المصرية أن تعيد النظر فى تقييمها للإسلاميين والإخوان فى القلب منهم ، لأن من حاول أن يجعل الإسلاميين والإخوان فزاعة لمصر وللعالم كله هو هذا الجهاز الفاشل المخادع الكذاب ، فكيف تقولون أنه مخادع وكذاب ثم تصدقونه .
لقد آن للقوى الوطنية أن تغير من نظرتها للإسلاميين وللإخوان كفصيل وطنى حر شريف قدم وضحى بالكثير من أجل حرية هذا البلد وعزته ، وأن كثيراً مما زعمه المرجفون عن هذا الفصيل هو وهم ومخالف ومناقض للحقيقة .
وما شهد به بعض من شارك الأحرار فى ثورتهم من أمثال الكاتب الصحفى بلال فضل أو المصرى المسيحى نجيب ساويرس ، أو حتى رجل النظام البائد الدكتور مصطفى الفقى - الذى ظهر فى آخر الصورة - عن دور الإخوان أو نزاهتهم لهو بداية أوبة من كل المصريين من الانخداع بزيف أمن الدولة إلى النظرة المنصفة الآمنة المسالمة .
وفى الختام .. فإن الدروس والدلالات التى يعطيها لنا حدث السقوط لأكثر من أن تحصى فى مقالة أو تختزل مثل هذا الاختزال ، وأزعم أن الأمر يحتاج لكتب ومجلدات تحكى مآسى هذا الجهاز وما حدث له من انهيار ، وكذلك تقص للناس بطولات العظماء الذين ضحوا بدمائهم وأعمارهم وأوقاتهم وهم يناضلون ويجاهدون أولئك المستبدين حتى أذن الله بزوالهم ، فأختم بتحية لأولئك الأبطال العظام من كمال السنانيرى لسليمان خاطر لأكرم الزهيرى لمسعد قطب لخالد سعيد لسيد بلال لشهداء ثورة 25 يناير ..
فإلى الفردوس الأعلى أيها الشهداء .. تقبلكم الله وألحقنا بكم شهداء .. مقبلين غير مدبرين .. اللهم آمين .. اللهم آمين .
__________

