13/01/2011
حازم سعيد :
فى صباح الأربعاء .. استيقظت من نومى – كعادتى - على رنين جرس المحمول الخافت الذى ضبطته لصلاة الفجر .. أو ما قبلها بقليل .. ثم توجهت للصلاة بالمسجد القريب من بيتنا وهو الذى لا يرتاده فى صلاة الفجر سوى صف أو اثنين لأجده ممتلئاً بالمصلين على غير العادة حتى اصطف فيه ستة أو سبعة صفوف .
صليت ثم جلست أختم الصلاة وما أن هممت بالانصراف متمتماً ببدايات أذكار الصباح مستعداً لإكمالها فى الطريق إلى منزلى حتى وجدت شيخاً وقوراً من رواد المسجد يتوجه لمكان الإمام وييمم وجهه شطر المصلين ليحدثهم .. فقلت لعلها خاطرة ، فجلست أكمل الأذكار ناوياً تحصيل ثواب حلقة من حلق الذكر ، والجلوس حتى تطلع الشمس لأصلى ركعتين بنية تحصيل ثواب الحج والعمرة مصداقاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
تحدث الشيخ الوقور بعفوية تنم عن ثقافة ووعى مذكراً المصلين بفريضة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وأنه سر خيرية هذه الأمة ، وأنه لولاها لهلك الحرث والنسل ، وأن الله سبحانه جعله نوعاً من أنواع الجهاد ، حتى عد رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر .
لفت نظرى تجاوب المصلين وانفعالهم بكلام الشيخ حتى أن بعضهم طلب الحديث وإلقاء الخواطر فكان له ما أراد ، والبعض الآخر توجه بأسئلة عن عقاب من يتخاذلون عن الأمر والنهى ، والبعض سأل عن عاقبة الظالمين ، وآخرون استفسروا عن درجات الأمر والنهى والتغيير باليد واللسان والقلب ..
انصرفت منشرح الصدر متفائلاً بهذا اليوم الذى توقعته يوم خير وبركة .. وحرى به ذلك فهو يوم بدأ بصلاة وذكر ودرس علم وتحصيل ثواب حج وعمرة .. وفوقها محتوى درس العلم وتفاعل المصلين ..
ذهبت إلى منزلى لأجد زوجتى قد صلت الفجر وانتظرتنى وقد غلب ظنها أنى مكثت فى المسجد للشروق ، ووجدتها قد أيقظت الأولاد وصلوا الفجر وانتظرونى وقد أعدت الإفطار ، وجهزتهم للامتحانات ..
على مائدة الإفطار فوجئت بابنتى الصغرى تسألنى : هو يعنى إيه ثورة شعبية ومظاهرات يا بابا ؟
فأجبتها بسؤال : من أين سمعتى هذا الكلام يا حبيبتى ؟
فقالت سمعت الأستاذة بالفصل امبارح بتقول إن المدرسات هيروحوا المحافظة بكرة علشان يعملوا مظاهرة لأن الفلوس اللى بيقبضوها مبتكفيش ، والأسعار مولعة نار ، وكيس السكر بقى بعشرة جنيه ، ومبيعرفوش يشتروا الرز ولا الزيت ، وإن البلد كلها هتعمل المظاهرات دى لغاية ما هتبقى ثورة شعبية .
رد ابنى الأكبر عليها بأنه سمع من أساتذته نفس الكلام ، وسألنى هو الآخر : هى الحاجات دى بتبقى مترتبة بين الأساتذة عندى والمدرسات فى مدرسة أختى ، أما أنها جاءت مصادفة ؟
أجبتهما بما يسر الله لى وأنا مندهش من إنصاتهم وطأطأة رؤوسهم وتحريكها بالفهم والقبول للكلام .
قدت السيارة لأوصلهم لمدارسهم وأنا أشغل الراديو على إذاعة البى بى سى فإذا بالأنباء تأتى من تونس بثورة شعبية هادرة بإقالة وزير الداخلية وقيام الرئيس التونسى بمخاطبة شعبه بوعود الإصلاح وتعديل الأسعار مع أنباء عن محاصرة الجيش للقصر الرئاسى ، وشائعات عن هروب زوجة الرئيس وعائلته لخارج تونس ..
أوصلت أبنائى وذهبت لأشترى الجريدة التى تعودت عليها يومياً ، فإذا بعم محمد بائع الجرائد يبدأنى بالكلام : يا دكتور الوضع ده معدش نافع ، دول حتى فى تونس اللى متجيش قد محافظتنا لوحدها وقفوا للديكتاتور .
قلت له : بلاش الكلام ده يا عم محمد ، انت مش عندك عيال عاوز تربيهم ، مش ده كلامك لى كل يوم وانت بتنصحنى إنى أبطل التجمعات بتاعتنا علشان عيالى .
فرد : يا دكتور خلاص أنا من ساعة ما صحيت م النوم وأنا مش طايق نفسى ، البلد بقى حالها هباب خالص ، معدش فيه حاجة نافعة ، أسعار نار ، وعيشة تزهق ، مجارى ضاربة ، وشوارع كلها حفر والحكومة مش حاسة بينا خالص ..
أنا يا إما أهاجر ، يا إما ألم اصحابى بياعين الجرايد ونروح للمحافظة علشان نعمل مظاهرة ويا روح ما بعدك روح ..
قلت له : يللا يا سيدى إيدى على كتفك شد حيلك وهنبقى نشوف صورتك فى الجورنال بقى بكرة ، وأكملت مداعباً : وهبقى أجيب لك عيش وحلاوة .
فرد على : خلاص يا دكتور هى موتة ولا اتنين ، حتى كلامك لى دايماً عن الشهيد اللى بيبقى مكانه فى الجنة مع النبى علشان الحاكم الظالم بيموته لما بيقول له كلمة حق .. أنا بقى طمعان إنى أكون الراجل ده .
تمتمت وراءه بالصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم وانصرفت ضاحكاً مستغرباً .
نظرت فى ساعتى فوجدت متسعاً من الوقت لشراء الخضروات ولزوم المطبخ فذهبت إلى السوق لأجد بائع الطماطم ينادى بصوته الجهورى : حمرة يا قوطة ، ياللى بقيتى أغلى من البنى آدم .
فرددت عليه : ليه كده يا حاج ، إيه اللى مزعلك قوى كده ، لسه الدنيا بخير يا راجل يا طيب ، إوزن لى اتنين كيلو واهدى كده .
قال : يا دكتور رحت المستشفى امبارح علشان أخلع ضرسى اللى بينقح عليا بقاله أسبوع ، الدكتور قالى عاوز مية جنيه ، أجيب له منين المية جنيه دى ، ومرضيش يخلعهولى إلا لما أجيبهم له ، قلت له يا دكتور والله ما معايا غير الستين جنيه دول . قال لى : ما ليش دعوة ، اتصرف . دا معدش فيه رحمة خلاص . المصيبة إن المستشفى ده خيرى أمال لو مكنتش خيرى كانوا عملوا فينا إيه ؟
ردت الست فوزية بائعة الخضروات : دا أنا جارتى راحت الأسبوع اللى فات علشان تكشف على بطنها عملوا لها أشعة بتلتمية جنيه ، وهى كده زينا على باب الله ، تسرق يعنى ! .. دى بقت حاجة ...
رد عليهم بائع المنظفات الذى كان يقف على باب محله قائلاً : إيه رأيكم يا جماعة لو نلم بعضنا كده كلنا ونروح عند المحافظة ولازم نقابل المحافظ علشان يا يشوف لنا حل ، يا الحكومة بنت الـ ..... تغور فى داهية .
أجابه الاسطى محمود صاحب محل الحدادة المجاور والذى يقبع فى قلب السوق : نصلى الظهر سوا ونطلع على المحافظة إن شاء الله .
لم أفعل سوى أن تنهدت ودعوت لهم بصوت خفيض : ربنا يعينكم ويعيننا ويقويكم ويقوينا .. واشتريت الخضروات ووضعتها فى شنطة السيارة وذهبت لعملى .
ما أن وصلت لمكتبى حتى شعرت بشئ غريب ، قابلنى ساعى المكتب بابتسامة عريضة وصافحنى – وهو الذى كان يخشى من ذلك ويتجنبنى – منذ آخر زيارة لمخبر أمن الدولة حين كان يسأله عنى - من يومها يخاف من مجرد مقابلتى وإذا صادفنى أدار وجهه ..
على غير العادة سارع بمعانقتى معتذراً ومبشراً : يا دكتور حازم هروح أنا وكل العمال النهارده بعد الظهر نقف قدام المحافظة ولازم نقابل المحافظ علشان يرفعوا مرتباتنا يا إما يخفضوا لنا الأسعار . ادعى لنا يا دكتور إن ربنا يهديهم لحسن لو مسمعوش كلامنا هنروح فيهم اللومان .
قلت له : إيه الشجاعة دى يا عم على ، هتروح اللومان فى المحافظ ؟ فرد : ورئيس الوزرا ورئيس الجمهورية كمان . قلت له متعجباً : يا راجل ؟
فرد : أنا بنتى مش عارف أجوزها ، العريس إدانى المهر والشبكة خمستاشر ألف جنيه مش عارف أشترى بيهم حاجة ، وأنا راجل غلبان محلتيش اللضة ، أسرق يعنى ولا أرتشى ؟ معدش هينفع الخوف ولا الجبن ، لازم ناخد حقنا بإيدينا ، دى البلد بتتنهب قدام عينا كل يوم واحنا ساكتين .
دعوت له وقلت له طيب ابقى طمنى عليك يا عم على ، وبعد مترجع ابقى عدى عليا علشان أشوف معاك موضوع تجهيز بنتك ، ولاد الحلال اللى أعرفهم يقدروا يساعدونا شوية فى الموضوع ده .
شكرنى وقال هجيلك يا دكتور ربنا يكتر من أمثالكم ، أنا عارف ولاد الـ ... بيحاربوكم ليه ، دول مش عاوزين الناس تحبكم ولا تقرب منكم ، لكن انتم ربنا هينصركم علشان واقفين جانب الغلابة اللى زينا .
تركته وجلست على مكتبى وسط زملائى ، كلهم يعرف أنى من الإخوان ، مجموعة منهم يحرصون على الصلاة ، والباقون بين لاه أو غافل ..
ما أن جلست حتى رن جرس المحمول فإذا بابن خالى يهاتفنى مهللاً – على غير عادته – ادعى لى يا حازم ، أنا رايح أنا وزمايلى فى وفد كبير قوى ، رايحين القصر الجمهورى ، لنا مطالب إصلاحية هنقول للريس عليها .
قلت له : اللا اللا الله ! إيه يا أبو حميد الكلام ده ؟ وإيه الشجاعة دى ، وكمان فى التليفون ، إنت مش عارف إن التليفون له ودان ؟ وإيه حكاية المطالب الإصلاحية دى ؟
رد على : خلاص ، حالة البلد معدتش مستحملة ، بره وجوه ، وضعنا السياسى يقرف ، واقتصادنا منهار بطالة وتضخم ، والأمراض والأوبئة والتعليم المتردى والمناهج اللى متلخبطة ، يا حازم دا الشعب التونسى عامل فى تونس حاجات ؟ إحنا بقى اللى هنسكت ، يا راجل دول حاصروا قصر الرئيس وأجبروه على حاجات جامدة قوى .
دعوت له ، وأنا مذهول ليس فقط من التحول الفجائى الذى طرأ على ابن خالى وإنما من المفاجآت التى تترى وتتوالى منذ الصباح .
وضعت سماعة التليفون لأجدنى أضرب كفاً على كف وأقول لزملائى : ابن خالى طول عمره ماشى جوه الحيط وبيخاف من خياله ومبيحبش السياسة ولا بيفهم فيها ، ده خوفه وصله إنه يشترط علي فى فرحه إنى معزمش مراتى علشان خايف من حجابها ، تصوروا إنه رايح مع زمايله يقابلوا الرئيس علشان تلبية مطالبهم ؟
أجاب الدكتور معتز صديقى الذى يتعاطف مع الإخوان بسبب حبه لى : فقال مدللا : يا حزوم ، وضع البلد يصحى الحجر . تصور إن الأتراك بيصدروا دلوقتى نص مليون عربية فى السنة وهمه اللى كان التضخم عندهم 30 % وصل دلوقتى مع أردوغان لـ 7 % ، وإجمالى صادراتهم وصل لـ 114 مليار دولار فى السنة ودخل المواطن زاد لـ 11000 دولار . كل ده لما جت حكومة نضيفة مبتسرقش شعبها .
رد الدكتور جمال زميلنا العلمانى والذى طالما أتعبنا بنقاشاته فى كل الموضوعات : تصوروا يا جماعة إن البرازيل لما حكمهم عامل أحذية تمكن من الارتقاء بما يزيد عن ثلاثين مليون برازيلي من تحت خط الفقر، وعد البنك الدولي البرازيل كخامس أقوى اقتصاد في العالم .
كنت أعرف هذا الكلام من قبل ولكنى فغرت فاهى مشدوهاً من هول المفاجأة .. مفاجأة أن يوافقنا الدكتور جمال فى مسألة من المسائل وبالذات معارضة الحكومة أو انتقادها .
أمسك الدكتور ممدوح العصا وبدأ زمام مبادرة تحرك بقوله : هنصلى الظهر سوا إن شاء الله ونطلع على المحافظة ، مالهاش إلا مقابلة مع المحافظ إحنا وكل زمايلنا من الدكاترة والموظفين علشان نوقف المهزلة دى .. مهزلة سرقة البلد والانحطاط الرهيب اللى وصلنا له فى ظل حكومة رشوة ومحسوبية واختلال لموازين الأولويات وغياب القيم .. التعليم والصحة يبقوا فى الديل والأمن هوا اللى يبقى على الراس .. ده كلام لازم له وقفة حقيقية .
طبعاً لن أحدثكم مرة أخرى عن رد فعلى ليس لهذا الكلام الغريب الذى أسمعه من ممدوح لأول مرة هو الآخر ، ولكن لأنه ينوى أن يصلى الظهر معنا وهو الذى يتهرب دائماً عند دعوته لكل صلاة .
المهم .. صلينا الظهر وصلى معنا ممدوح وجمال وأخرون أراهم بالمسجد لأول مرة ، ثم مررنا على الزملاء والموظفين بغرفهم ومكاتبهم وتوجهنا جميعاً فى مسيرة ضمت أكثر من ثلاثمائة دكتور وموظف ، وما أن خرجنا من باب المبنى الجامعى الذى نعمل به حتى وجدنا الشارع كله يعج بالمظاهرات عمال وطلاب مدارس وبائعين وتجار ومهندسين .. كل شرائح الوطن خرجت زرافات ووحداناً ..
كنا فى مقدمة الصفوف حين وجدنا المحافظة وقد تحوطت بعشرات من عساكر الأمن المركزى ليخرج علينا رجل يحمل على كتفه كمية من النحاس كفتنا لنعرف أنه اللواء فلان مدير الأمن ، ليحذرنا من التظاهر .
انتدبنى زملائى لمعرفتهم بقدرتى على ترتيب الكلام لأحدثه ويصمت الجميع منتظرين ماذا سأفعل ، سألنى ماذا تريدون وهددنى بأن البلد مش فوضى والغوغائية اللى احنا عاملينها دى مش هتنفعنا ، وأن علينا أن ننصرف لأن اللى مش هيرجع مننا من سكات هيروح وراء الشمس .
تركته حتى أنهى كلامه ، لأقول له : أن الشعب له مطالب ، والجهة التى نعرف أنها ممثلة الهيئة التنفيذيه هو المحافظ وأننا نريد أن ننتدب وفداً منا ليقابله وينمى إليه مطالب الشعب .
فرد على بسرعة عجيبة : مطالب إيه يا ابو مطالب .. هو انت فاكر الدكتوراه اللى معاك دى هتحوشنى عنك انت وأمثالك ، أنا عارفكم مش انت فلان الفلانى بتاع الإخوان ؟ لو ما مشيتش من هنا يبقى هتروح على المعتقل .
أجبته : أنا هنا لا أمثل نفسى .. الناس دى كلها انتدبتنى أكلمك وأوصل للمحافظ مطالبهم .. واحنا مش هنمشى من هنا لغاية ما نقابله ونكلمه فى طلباتنا ، واحنا مش بنعمل غوغائية .. احنا ناس مسالمي......
لم أكمل كلمتى لأجده يشير لعساكر الأمن المركزى للتحرك ضدنا بصورة غاشمة فجائية وفى تطور سريع انهالوا بالضرب بالشوم على الصفوف الأولى التى أنا فى مقدمتها ، وبدأت قوات الأمن التى ترتدى الزى المدنى فى الإمساك بمن تستطيع وشحنه لعربات الأمن المركزى المصفحة ..
وإذا بعسكرى أمن مركزى يضربنى بشومة جبارة فى يده بقوة ليفتح رأسى وينهال الدم على وجهى .. ووجدتنى أصرخ بقوة : حسبنا الله ونعم الوكيل .. يا ظلمة ربنا ينتقم منكم ..
لن نسكت على ظلمكم ، وزملائى والناس من حولى يتساقطون ويصرخون ، ويشتد الألم بى لأصرخ : آآآآآآآآآآه ، آآآآآآآآآآآآه
فإذا بى أسمع صوت زوجتى وهى تقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .. فوق يا حازم .. لا حول ولا قوة إلا بالله .. ده باين عليه كابوس .. انت كنت بتحلم حلم وحش قوى انت عمال تصرخ وانت نايم ..
التفت حولى لأجد ظلام غرفة نومى فقلت لها : هى الساعة كام دلوقتى : قالت باقى على الفجر نصف ساعة . قوم اتوضا علشان نصلى سوا ركعتين قبل الفجر ...
قلت لها : والله كان حلم جميل قوى حتى آخر حتة فيه كانت حلوة .. ده مكانش كابوس .. دى كانت رؤيا ، إن شاء الله مش هبطل أحلم - قلتها بينى وبين نفسى –
ثم دعوت بدعاء الاستيقاظ : الحمد الله الذى أحيانى بعد ما أماتنى وإليه النشور .. الحمد لله الذى أحيانى بعد ما أماتنى وإليه النشور .. الحمد لله الذى أحيانى بعد ما أماتنى وإليه النشور ..
ـــــــــــــــ

