16 / 03 / 2010

أما الرجل فقد أفضى إلى ما قدم ، ويبقى حسابه على الله سبحانه وهو يرحمه إن شاء أو يعذبه .. لا نملك من هذا الأمر شيئاً .. نسأل الله له ولكل أموات المسلمين الرحمة والمغفرة .
وأما آثاره الباقية والتى هى فتاويه فلكل علماء الأمة تناولها بالنقد والإزالة إن شاؤوا دون أن يكون فى هذا التناول انتقاص للرجل بشئ أو تناول الأموات بشكل يخالف ما عليه شرع الإسلام وأدبه ، لا سيما وأن هذه الفتاوى متعلقة بالأمة كلها لا به وحده .
وأما دوافعه لهذه الفتاوى والمواقف فليس لنا فيها شئ هى الأخرى وهى لله الأعلم بها والقادر على أن يحاسبه عليها فيرفعه أو يخفضه .. هو وحده – سبحانه – الكفيل بهذا الأمر وليس أحد سواه .
 
 فتاوى سلطانية
 
وأما الفتاوى فكانت فتاوى سلطانية اتخذها الحاكم مطية لأهوائه وترهاته ، وارتكز عليها لتبرير مخالفته وديكتاتوريته ، وأحدثت شرخاً عميقاً بين علماء الأمة ناهيك عن عوامها ، واتخذها كثير من الناس تكأة لتبرير مخالفاتهم .
المختصون والباحثون تناولوا فوائد البنوك الربوية على أنها الفتوى الأكبر قيمة وأثراً حيث – على غير سابقة من علماء الأمة - أحلت ما حرم الله من الربا الذى توعد الله سبحانه آكله بالحرب.
ويأتى بعدها التصميم الغريب على تمزيق كلمة المسلمين فى إثبات أوائل الشهور العربية ، فبعد أن كانت كلمة المسلمين واحدة ويتبعون طريقة واحدة فى هذا الإثبات ، إذا به يصمم على أن يقحم العلم فى موضوع لم يعنى أبداً عدم الأخذ بالحسابات فيه أن المسلمين يهدرون قيمة العلم أو العلماء .. وإنما مزق – التصميم والتشدد - كلمة المسلمين وفرق شملهم فى تطبيق خاطئ لموضوع اختلاف المطالع بين الدول حيث يثبت اختلاف المطالع جغرافياً لا فلكياً .. ثم ما بالك تضطر اضطراراً لاتباع السعودية فى أخذها بالرؤية فى شهر الحج الأكبر ، فلماذا تقلد هاهنا وتمزق كلمة المسلمين هناك ؟ .. فى موضوع طويل ليس هذا مكان الرد عليه .
فتاوى ومواقف كثيرة تحتاج لنقد أو لنقض وإزالة منها التأييد المطلق لمؤتمر الإسكان والذى جاء فيه الاعتراف بالزواج المثلى ..
تأييد قرار رئيس الجمهورية بإحالة المدنيين للمحاكم العسكرية فتوى مثيرة احتاجت من المسلمين لكثير من الجهد لفهمها .
اعتبار العمليات الاستشهادية لإخواننا الفلسطينيين عمليات انتحارية ، وأن الذى أحدث نكاية فى هؤلاء اليهود هو منتحر .
إباحة الاستعانة بالقوات الأجنبية بدول الخليج للاعتداء على العراق واتخاذ قواعد أجنبية أشبه بالاحتلال إن لم تكن احتلالاً كاملاً .
الموافقة على قرارات وزارة التربية والتعليم ضد المحجبات والمنقبات بل واتخاذ موقف مبادرة ضد المنقبات بخلع نقاب تلميذة الإعدادى وسبها ..
مصافحة اليهود والحفاوة معهم واستقبالهم أطيب استقبال سواءاً الحاخام مائير أو شيمون بيريز ، بل واعتزام زيارة القدس بتاشيرة يهودية .
خذلان المسلمات العفيفات المحجبات بفرنسا ، وتأييد الفرنسيين فى حربهم على الحجاب واعتبار ذلك شأناً فرنسياً داخلياً لا يحق لنا نحن المسلمين أن نخوض فيه .
إصدار بيان لتأييد قرار النظام المصرى ببناء جدار فولاذى على حدودنا مع غزة التزاماً بقرار صهيو – أمريكى ، وهو البيان الذى احتفى به اليهود وهللوا له وفرحوا بمصدره .
الفتوى العجيبة بمعاقبة الكتاب والصحفيين الذين يقومون بترويج الشائعات بالجلد، والتى أثارت جدلا واسعا وانتقادات حادة ، وأحدثت ردود فعل واسعة حيث دعا العديد من الصحفيين للبدء في تشكيل جبهة مناهضة لشيخ الأزهر بسبب زيادة عدائه للصحفيين.
الفتوى السياسية بجواز توريث الحكم من الأب للابن – وذراً للرماد بالعيون – أردفت بـ " إذا جاء بانتخابات حرة نزيهة " .. فهل تعلم أنها لو بانتخابات حرة نزيهة فلن تكون توريثاً فلا يصح لك كعالم أن تستخدم هنا لفظ التوريث ، وهل يغيب عنك كعالم أنه لا تجرى فى بلادنا انتخابات حرة نزيهة ، فالسيدة حرة معتقلة ، وأختها نزيهة ماتت منذ عقود .
جزء من كل لمجموعة فتاوى سلطانية تحتاج لمراجعات ووقفات ونقض وإزالة ، ولا أرى أى حرج فى الحديث عنها رغم موت صاحبها .. فكما قدمت : هو قد مات ، وهى باقية تحتاج لإزالة لأنها تعدت على الأمة واعتدت على ثوابتها ويخشى أن تهدم قيماً وأخلاقاً تحتها .
 
الاستقلالية عن السلطان .. والتبعية لله والرسول والمؤمنين
 
وذلك هو العنوان الكبير ، والحل الذى يضمن للمنصب عزته ، ولصاحبه ربانيته وحياده ووفاءه للبيعة التى بايع العلماء ربهم عليها والميثاق الذى واثقهم الله سبحانه به : " { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيِّنُّنه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلاً فبئس ما يشترون } (آل عمران:187) .
والآية فيها أقوال منها أن المقصود كل من أوتي علمًا بأمر الدين ؛ روي عن قتادة أنه قال: { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم } هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم، فمن علم شيئًا فلْيُعلِّمه، وإياكم وكتمان العلم، فإن كتمان العلم هلكة، ولا يتكلفن رجل ما لا علم له به، فيخرج من دين الله، فيكون من المتكلفين. وكان يقال: طوبى لعالم ناطق، وطوبى لمستمع واع. هذا رجل عَلِمَ علمًا فعلمه وبذله ودعا إليه، ورجل سمع خيرًا فحفظه ووعاه وانتفع به .

وقال محمد بن كعب : لا يحل للعالم أن يسكت على علمه، ولا للجاهل أن يسكت على جهله، قال الله تعالى: { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب } وقال: { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } (الأنبياء:7).
الحل ليصبح المنصب لله سبحانه ولنصرة دينه ولتجميع كلمة المسلمين ولإرشادهم لما يحبه الله ويرضاه وحتى لا يأخذ صاحبه فى الله لومة لائم .. الحل فى أن يستقل المنصب عن الدولة استقلالاً رسمياً وتاماً ..
والطريق لذلك متعددة تحدث فيها كثير من المختصين والباحثين ووضعوا لذلك حلولاً نؤكدها منها أن يصبح المنصب بالانتخاب لا بالتعيين ، ومنها أن يكون المسئول عن التعيين فى حالة الإصرار عليه هو هيئة العلماء أو مجمع البحوث وليس الحكومة والدولة ورئيس الجمهورية ، وأن يكون راتب شيخ الأزهر من أوقاف المسلمين نظير تفرغه للدور الذى يؤديه لخدمة الإسلام والمسلمين ، ولا يكون راتبه من عطايا السلطان وأن يحظر على شيخ الأزهر قبول أى عطايا أو هدايا من الحاكم مهما كان ..
تفصيلات الحلول كثيرة .. ولكن من يملك المفتاح ؟ من ينصر المنصب نصرة لله والرسول ؟ ومن يملك حق تبنى هذا الموضوع والدفاع عنه فى ظل حكومة تتعامل مع الملف بصورته الأمنية البغيضة ؟
أين الشيوخ والعمائم التى يمكن أن تقف ولا تأخذها فى الله لومة لائم لينتفضوا انتفاضة مجمعة فيوقفوا هزل الحكومة ويجبروها على النزول لإرادتهم وإرادة الأمة بتوفير الاستقلالية لهذا المنصب الرفيع المهم .
أين المهتمون بشأن المسلمين العام الذين يمكن أن يحركوا القضية ليأتينا شيخاً للأزهر يعيد لنا كرامة ضائعة لهذا المنصب الحزين ..
 
سجل حافل من الشرف .. الإمام المراغى نموذجاً
 
 من يعيد لنا أيام من كان يمد رجليه بحضرة السلطان ، لأنه لا ينتظر عطيته ، فى سجل حافل بالمواقف المشرفة لمشايخ الأزهر الذين جعلوا من الانتساب له شرفاً للأزهرى ؟ .
نعم .. من يعيد لنا أيام الشيخ الإمام المراغى – رحمه الله - .. والذى كان له مواقف تاريخية مشرفة منها موقفه من الحرب العالمية الثانية، حين رفض مجرد فكرة اشتراك مصر في هذه الحرب سواء بالتحالف أو التعاون مع الإنجليز، أو التعاون مع الألمان للتخلص من الاحتلال البريطاني ، وعلى حين وقف المنبطحون ليؤيدوا الإنجليز وتوجه آخرون لتأييد الألمان وهتفوا بقائد تحالف المعسكر الألماني : " تقدم يا روميل" وقف الإمام المراغى بعزة وليعلن عن رأيه بقوة : "إن مصر لا ناقة لها ولا جمل في هذه الحرب، وإن المعسكرين المتحاربين لا يمتان لمصر بأية صلة...".
لتحدث الكلمة ضجة كبيرة هزت الحكومة المصرية، وأقلقت الحكومة الإنجليزية، والتي طلبت من الحكومة المصرية إصدار بيان حول موقف الإمام المراغي باعتباره شيخ الأزهر من هذه الحرب ومن الحكومة الإنجليزية.
فما كان من رئيس الوزراء المصري في ذلك الوقت حسين سري باشا إلا أن قام بالاتصال بالشيخ المراغي، وخاطبه بلهجة حادة طالبا منه أن يحيطه علما بأي شيء يريد أن يقوله فيما بعد حتى لا يتسبب في إحراج الحكومة المصرية.
فرد عليه الإمام المراغي بعزة المؤمن الذي لا يخاف إلا الله قائلا : "أمثلك يهدد شيخ الأزهر ؟ ولو شئت لارتقيت منبر مسجد الحسين، وأثرت عليك الرأي العام، ولو فعلت ذلك لوجدت نفسك على الفور بين عامة الشعب ".
وبعد فترة هدأت العاصفة لأن الإنجليز أرادوا أن يتفادوا الصراع مع الشيخ المراغي حتى لا يثير الرأي العام في مصر ضد القوات البريطانية المحتلة في مصر.
الإمام المراغى رحمه الله لم يكن موظفاً بالدولة ولم يكن بوقاً يردد ما تقوله الأنظمة الفاسدة ويطوع الأدلة لذلك فيرضى لنفسه أن يكون جزءا من نظام فاسد له ما للنظام وعليه ما على النظام   كما أنه لم يكن يعرف الخطوط الحمراء مع الساسة والسلاطين .
ــ وقد تزعم الإمام المراغي حملة لجمع تبرعات في مصر لصالح المجاهدين في السودان الذين يقاومون الاحتلال البريطاني في الوقت الذي كانت الحكومة المصرية للأسف تساعد الجيش الانجليزي على احتلال السودان، وبلغت حصيلة التبرعات ستة آلاف جنيه مصري آنذاك تقدر اليوم بالملايين .
ــ ومن المواقف التاريخية المشرفة للإمام المراغي رفضه الاستجابة لطلب الملك فاروق ملك مصر، والخاص بإصدار فتوى تحرم زواج الأميرة فريدة طليقته من أي شخص آخر بعد طلاقها، فرفض الشيخ المراغي الاستجابة لطلب الملك فاروق، فأرسل الملك فاروق بعض حاشيته لكي يلحوا عليه لإصدار هذه الفتوى، فرفض الشيخ المراغي، ولما اشتد عليه المرض دخل مستشفي المواساة بالإسكندرية، وهناك زاره الملك فاروق للاطمئنان عليه من ناحية، وللإلحاح عليه مرة أخري لإصدار الفتوى الخاصة بتحريم زواج الملكة فريدة، فصاح الإمام المراغي برغم ما كان يعانيه من شدة الألم بسبب المرض قائلا : "أما الطلاق فلا أرضاه، وأما التحريم بالزواج فلا أملكه، إن المراغي لا يستطيع أن يحرم ما أحل الله".
 
ــ ولم يكن المرض ليمنع الإمام المراغي من أداء واجبه في خدمة الأزهر ليكون قلعة ومنارة للإسلام. ففي إحدى السنوات اشتد عليه المرض، وكانت فترة الامتحانات بالأزهر قد بدأت، فأصر الإمام المراغي على الذهاب يوميا لمكتبه في الأزهر، حيث كانت تطبع أوراق الامتحانات، وبرر ذلك بقوله: "إنني أتقبل تعرض صحتي للخطر وهو أمر أهون على من أن تتعرض سمعة الأزهر للخطر".
رحم الله الشيخ المراغى .. وكل من دافع عن الإسلام والمسلمين وكل من نصر قضايا الإسلام وقدم كلمة الحق على حظ نفسه وعلى أى سلطان جائر .. وأعاد الله سبحانه لنا هيبة الأزهر الشريف وهيبة مشيخته ونفع الله بها .. اللهم آمين
 
========

 

 الجزء المتعلق بالشيخ المراغى منقول بتصرف من موضوع : الشيخ المراغي ..أصغر شيوخ الأزهر الشريف سناً بموقع إسلام أون لاين .