13/02/2010

 *د ممدوح المنير
 
لم تكن مشاهد القتل الوحشى التى يمارسها الجيش النيجيرى بحق المدنيين العزل  و التى بثتها قناة الجزيرة سوى عملية
( كشف ) عن الشق الغاطس من الأزمة الكبيرة التى تعيشها نيجيريا عامة و الأغلبية المسلمة خاصة .

و حتى تتضح ملامح الأزمة الحالية دعونا نسترجع الماضى القريب و البعيد ، لعل و عسى أن نفهم حقيقة ما يحدث هناك .

دخل الإسلام نيجيريا فى أوائل القرن العاشر الميلادى على يد فقهاء الأندلس  ، وقامت قبائل الهوسا التى تنتشر قى الشمال الغربى الأفريقي بدور كبير فى نشر الإسلام هناك  و خاصة فى شمال و وسط نيجيريا   ، حتى تكونت فى عام 1804 م 
(( خلافة سوكوتو )) قادها عثمان دانفودو  و التى وحد بها شمال نيجيريا بكامله تحت رايته و حكّم الشريعة الإسلامية فى جل شئون الخلافة الإسلامية الجديدة  واستقر لها الأمر بشكل كبير فى عام 1893 م .
فى حين ظل الجنوب يمثل المسيحيون فيه نسبة كبيرة من مجمل السكان وإن كان المسلمين لهم تواجد هناك و لكنه أقل عددا ( تعداد السكان حاليا  150 مليون نسمة يمثل المسلمون منهم أكثر من 65 %  ) .
ثم كانت الطامة الكبرى  و التى نشأت بمقدم الإحتلال البريطانى فى عام  ( 1900 ) ، ليعيث فسادا و بطشا فى الدولة الإسلامية الناشئة حتى إنتهى به الأمر بإحلال القوانين البريطانية محل الشريعة الإسلامية فى كافة المعاملات حتى تحولت الشريعة إلى شىء من التراث بنهاية الإحتلال !! . 

بعد ذلك حرص الإحتلال البريطانى  - عندما أوشك على الرحيل  ( 1960 ) - على إعطاء المسيحيون نفوذ كبير فى البلاد إلى حد جعل رئيس الدولة مسيحى يحكم أغلبية مسلمة !! ، و لك أن تتخيل حجم النفوذ المسيحى  فى كافة مؤسسات الدولة إذا كان الرئيس ذاته مسيحى .

ظلت أوضاع المسلمين فى نيجيريا تتجه للأسوء ، نتيجة المصادمات العنيفة التى كانت تحدث بين الدولة و المواطنين المسلمين الذى يطالبون بحقوقهم المسلبوه سواء فى إدارة الدولة أو فى الخدمات المقدمة لهم  فضلا عن تحكيم الشريعة الإسلامية  ، كما فاقم من حدة التوترات  وجود ( 250 ) قومية و عرقية و قبيلة يغلب على الكثير منها الإنتماء القبلى والعرقى عن الإنتماء للدوله ككل  .
بعد ذلك حدث تغير نوعى عام 1999 م بانتقال الحكم من العسكر إلى المدنيين  و بدأ تطبيق القانون الفيدرالى  و الذى يقضى بالسماح للولايات بتطبيق القوانين الخاصة بها مما سمح للولايات الشمالية  بالبدأ فورا فى تطبيق الشريعة الإسلامية حتى أصبحت هى القانون الأساسى لجّل الولايات الشمالية تقريبا  ( أكثر من 12 ولاية شمالية  طبقت الشريعة ) ، مما أثار حفيظة المسيحيين  خشية أن تمتد المطالبات بتطبيق الشريعة إلى الولايات ذات الثقل النسبى للمسيحيين بها  ودارت مواجهات دامية بين الطرفين .

لم تكن الأسباب الدينية أو القبلية  فحسب  هى المسببة  للتوتر  ، و لكن الفساد الهائل المستشرى فى كافة مؤسسات الدولة والذى جعلها من أكثر دول العالم فسادا  واحتكارا  للثروة و السلطة فى يد فئة محددودة للغاية ،  أضف إلى ذلك  الفقر الشديد و المدقع لأغلب السكان ( أكثر 100 مليون نسمة تحت خط الفقر !! )  رغم أن نيجيريا هى أكبر منتج و مصدر للنفط فى أفريقيا !! بل تعد مصدرا أساسيا و حيويا للنفط  للدول الكبرى مثل الولايات المتحدة و بريطانيا  وهذا أيضا جعلها ساحة لصراعات و تدخلات الدول الكبرى للسيطر على النفط بها .

كان طبيعيا إذن أن تنشأ  جماعة مثل بوكو حرام ( Boko Haram) –  معناه  بلغة الهوسا ( تحريم التربية الغربية )وسط هذه الأجواء من  الفقر و الجهل و الصراعات الطائفية و القبلية و الفساد المستشرى ، فمعظم أفرادها طلبة لم يتسنى لهم إكمال تعليمهم حتى لقبوا بطالبان نيجيريا !! و هى جماعة ترفض قيم الحضارية الغربية التى يراد فرضها على اهالى نيجيريا خاصة فى الولايات المسلمة  و تسعى  لمحاربة الغزو الثقافى الغربى الذى يضغط بشدة على المجتمع النيجيرى  ومع حدة الجذب الطائفى و اشتداد حملات التنصير بشكل صريح لحد تعليق لافتات فى شوارع المدن ذات الأغلبية المسلمة تدعو للتنصير المباشر ، تحركت بوكو حرام محاولة فرض الشريعة الإسلامية كما تراها هى  ، فبدأت فى مهاجمة مقرات الشرطة و الإشتباك مع السلطات فحدثت مصادمات دامية خسر فيها الجميع بوكوحرام و الدولة و المواطنين الذين قتلوا بلا ذنب أو جريرة .

قد تكون المبررات التى انطلقت منها الجماعة لها وجاهتها من شدة الفساد و الإستبداد و الفقر و المرض و التنصير و التغريب ، لكن المؤكد أن أسلوب الصدام مع الدولة بهذا الشكل ، ليس له سند من عقل أو شرع أو منطق فهى مواجهة خاسرة بكل تأكيد .

على الطرف الآخر تعتبر ما قامت به السلطات النيجيرية من جرائم القتل بدم بارد بحق أعضاء الجماعة دون تفكير فى الدخول معها فى حوار و دون محاكمات دليل على حجم الإستبداد و الطغيان الجاثم على صدور المجتمع النيجيرى ، مما يزيد من إحتمالات تسارع و تيرة العنف هناك ، خاصة بعد إعلان بوكوحرام إنضمامها لتنظيم القاعدة ، مما يجعلها مستباحة تماما من قبل الجميع السلطة و المجتمع و الدول الكبرى .
يبقى الحل فى تدخل العقلاء هناك أصحاب المنهج الإسلامى الوسطى مثل جماعة تعاون المسلمين  فى محاولة لرأب الصدع بين الطرفين بمطالبة السلطة هناك بالتوقف عن جرائمها فى حق المواطنين  و بوكوحرام بمحاولة تصحيح الفكر المتطرف المسيطر عليها .
أكثر ما يحزن المرأ أن ما يحدث فى نيجيريا هو مشهد مما تحياه الأمة جميعا  نفس السيناريو والإنتاج و المشاهد بل حتى نفس الأبطال ربما الفرق الوحيد هو الضحية و مكان التصوير !! ، قد يكون المكان فلسطين ، العراق ، أفغانستان ، اليمن الخ ... فمتى نفيق من ثباتنا العميق ؟!! .
 
ـــــــــــــــ

كاتب ومدون مصري