24/01/2010
* د. محمد عبد الرحمن
يتردَّد كثيرًا كلمة "الشرعية" وموقف الجماعة من ذلك؛ ما يحتاج إلى توضيح في هذا الشأن.
إن الجماعة ككيان والدعوة بصفة عامة تستمد شرعيتها من أصول وموازين ترتبط بجوهرها ورسالتها، تستمدها من الآتي:
1- من الحق الذي تحمله وتنتسب إليه؛ فهي تستمدُّ انطلاقتها وأهدافها من رسالة الإسلام، وتنتسب إلى دعوة الله رب العالمين، ومن مقدار التزامها وانضباطها بهذا الأصل تكتسب هذه الشرعية.
2- من مدى إيمان أفرادها بهذا الواجب، وما استقرَّ في قلوبهم بضرورة القيام بهذه الدعوة تلبيةً لواجب الإسلام وأمانة الدعوة.
3- من يقين الأفراد بتأييد الله لهذه الدعوة (بصرف النظر عن ذوات أشخاص بعينهم) والثقة والأمل في نصر الله لها والتمكين لدينه ودعوته.
4- من مدى حاجة الأمة الإسلامية خاصةً والبشرية عامةً إلى هذه الدعوة.
5- من البعد التاريخي والواقع العملي في مدى استجابة عناصر الأمة وشبابها للدعوة وثبات أصحابها عليها دون تبديل أو تحريف.
فهذا هو أصل الشرعية التي يستشعرها أفراد الجماعة، ويؤمنون بها في حركتهم ولا يستطيع أحد أن ينزعَها عنهم، أو يهزَّها داخلهم.
وهذا الفهم وتلك الرؤية والقناعة لا نقصرها على جماعة الإخوان المسلمين وننفيها عن غيرها، وإنما هي تشمل أيضًا أيَّ تجمُّع عامل للإسلام، يحقق تلك الموازين والضوابط.
وتأتي درجة أخرى في هذا الأمر، وهي درجة "القبول المجتمعي"، والتي تنشأ من نظرة المجتمع للدعوة، ومستوى التعامل معها، وهذا التأثير يشمل الجانبين المتلازمين:
* الجانب الأول: المبادئ التي تحملها الدعوة والخطاب الذى يعبر عن ذلك.
* والثاني: القائمون عليها والمنتسبون إليها ومدى صلاحية سلوكهم وحملهم للدعوة.
وهذا الرضا والقبول المجتمعي كواقع تاريخي وحالي ينتج من طبيعة المنهج الذي تحمله الدعوة، فما زالت عاطفة الناس للإسلام قائمةً وكامنةً في نفوسهم، وكذلك من خلال منهج الإصلاح الذي تمارسه الجماعة في المجتمع، والهدف السامي الذي تسعى إليه.
كما أن ثبات أصحاب هذه الدعوة وتضحياتهم وتاريخهم وتواصلهم مع المجتمع وأفراده يؤدي إلى تعميق هذا القبول المجتمعي، وإن نتائج الانتخابات عندما تكون نزيهةً، سواء في البرلمان أو في النقابات المهنية، فإنه يمثل أحد الأدلة على هذا القبول المجتمعي.
لكن تتعرَّض الدعوة والجماعة لمحاولات تشويه صورتها ومنع أو تقليل هذا القبول المجتمعي لها، سواءٌ نتيجةً لموقف النظام الحاكم منها، أو من تيارات تختلف معها، أو شخصيات واتجاهات لها مصالح متعارضة، أو كجزء من حملة أصحاب المشروع الصهيوني- الأمريكي، وهذا التشويش والتشويه للصورة الذهنية عند المجتمع تجاه الجماعة لم يأتِ حتى الآن بالنتيجة المرجوَّة منه عند أصحابه، ففي الأوقات والمراحل التي ظنوا فيها أنهم نجحوا في ذلك فوجئوا باختلال حساباتهم، ومدى إقبال الشباب عليها وسرعة انتشارها في القرى والنجوع، وفي شرائح المجتمع المختلفة.
إن إحساس الدعاة بأنه ما زالت في المجتمع نسبة لا تفهم الإسلام الفهم الصحيح وتستغرب ما يدعون إليه، أو تتخوَّف من أصحاب هذه الدعوة، أو تواجههم ببعض الصدود؛ فإن هذا شيءٌ متوقَّعٌ لأي دعوة، ويحتاج من الدعاة إلى الصبر وحسن التعامل والحكمة والموعظة الحسنة، وتحمُّل ما يتعرضون إليه من أذى، والتواصل الصحيح بشتى الوسائل مع المجتمع وأفراده.
لقد واجه الأنبياء جميعًا عليهم السلام في بداية دعوتهم هذا الأمر من غياب الرضى والقبول المجتمعي في البداية عندما جاءوا بدعوتهم لقومهم؛ إذ اتبعتهم فئةٌ قليلةٌ مستضعفةٌ، وواجهتهم غالبية المجتمع بالصد والإعراض، لكنَّ الدعوة لا تتوقف أو لا تتحرك انتظارًا لهذا القبول المجتمعي، وهذا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث- بعد سنوات- تحوَّل هؤلاء المعارضون إلى دين الله أفواجًا، وحملوا بعد ذلك مشاعل النور والهداية.
ويشير الشهيد سيد قطب في ظلال القرآن إلى كيف تكون علاقة الداعية بالمجتمع، مهما حدث له، فيقول: "فالناس في حاجة إلى كنف رحيم، وإلى رعاية فائقة، وإلى بشاشة سمحة، وإلى ودٍ يسعهم، وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم، في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم، ولا يحتاج منهم إلى عطاء، ويحمل همومهم ولا يعنيهم بهمِّه، ويجدون عنده دائمًا الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود والرضا، وهكذا كان قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم" أ.هـ.
ثم نأتي إلى ما يُعرف الآن "بالشرعية السياسية"؛ أي إعطاء القبول القانوني أو القبول السياسي للجماعة ككيان ودعوة، أو إعطاء ذلك لجزء من كيانها تتحرك به.
وهذه الشرعية السياسية أو القبول القانوني بمعنى أدق يمثِّل حمايةً قانونيةً لها، وهذا بلا شك أمرٌ مفيدٌ، ويضاف إلى رصيدها وحركتها بالمجتمع، ولكن يختلف عن أصل الشرعية الذي تنطلق منه الدعوة وأشرنا إليه سابقًا؛ لأن هذا أمرٌ متغيرٌ؛ حيث يرتبط بالنظام الحاكم وموقفه من الجماعة ودعوتها، فالحاكم في أغلب دول العالم الثالث في هذه المرحلة الحالية هو الذي يضع القوانين ويغيِّر فيها ما يرى في ذلك المصلحة له، بل أحيانًا يصبح هو القانون، كما أن هناك عوامل خارجية تتدخل وتؤثر في هؤلاء الحكام من دول عظمى لها مصالحها ومشاريعها والتي تتعارض مع أهداف الجماعة ورسالتها.
لهذا الأمر- رغم هذا الواقع- فإن الجماعة في خطتها تسعى إلى تحقيق هذا القبول القانوني بكل وسائل النضال الدستوري، وفي نفس الوقت لا توقف حركتها ودعوتها والعمل لتحقيق أهدافها على تحقق هذا الأمر المفيد، أو تجعل تحصيله على حساب ثوابتها أو التنازل عن منهجها ورسالتها، أو تصاب بالإحباط إذا كان الواقع المحيط بها لا يساعد على ذلك، وأن تدرك أن هذا أمرٌ متغيرٌ، فإن حصَّلته في مرحلة فستفقده في أخرى؛ لأن هذا طبيعة الواقع الذي تواجهه، وطبيعة طريق الدعوة وسنة الله وقانونه في الامتحان والاختبار.
وعلى هذا تقوم كفاءة الدعوة بالعمل في كل الظروف والأحوال، وفي القدرة على شق طريقها في ظل أي مناخ، وقد مرَّت الدعوة تاريخيًّا بمراحل شتى من الشرعية الاجتماعية والسياسية، ثم من حجب هذه الشرعية عنها، ثم درجات متفاوتة من التضييق والحصار عليها أو حتى محاولة الإقصاء الكامل.
لقد استفاد رسول الله صلى الله عيه وسلم بالواقع الموجود حوله ومن بعض قوانين المجتمع الجاهلي في مكة، استفاد من قانون "الإجارة" واختار المسار المناسب لذلك عندما طلب من المطعم بن عديّ أن يدخل مكة في جواره؛ إذ حاولت قريش منعه عند عودته من الطائف.
وكذلك استفاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من قانون التوازن بين قبائل قريش، ومن حماية بني هاشم وعصبيتها له، في تقليل بعض المعوِّقات وتسهيل الحركة بالدعوة، وإن كان هذا الأمر- من حماية أبي طالب وبني هاشم- لم يمنع التعذيب والإيذاء الذي تعرَّض له الصحابة وتعرَّض له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو القبائل التي تفِد إلى مكة إلى أحد أمرين: إما الإيمان بالدعوة وحملها، وإما إلى إعطائه الحماية حتى يبلِّغ الدعوة، وهو ما يُسمَّى في عصرنا الشرعية السياسية أو القبول القانوني.. "من رجل يأويني حتى أبلغ رسالة ربي"، وذلك ليستفيد منها في الانطلاق بالدعوة إلى كل جزيرة العرب، وقد حاولت بعض القبائل وضع شروط لذلك، ومنها اشتراط أن يكون لهم الأمر من بعده، فرفض رسول الله صلى الله عليه وسلم أي تنازل في دعوته.
ورغم عدم تحقق هذه الشرعية السياسية فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم استمرَّ في دعوته ورسالته حتى نجح بفضل الله في إقامة ركائز الدولة الإسلامية وانحياز المجتمع في المدينة لهذا الدين، وبذلك أسَّس دولة الإسلام.
والجماعة لا تنزعج إذا فقدت هذا الغطاء أو لم يتحقق في مرحلة ما؛ لأنه مرهونٌ برضا حاكم أو مناخ مؤقت أو حدث يؤثر في الواقع السياسي، وبالتالي لا تتوقف دعوتها أو تضعف؛ فهي وسيلة تستفيد منها الجماعة، ولا تحبط أو تيأس إذا لم يتحقق.
والدعوة لا تسعى إلى استفزاز حاكم، لكن تقول الحق والنصيحة، في ثبات ووضوح، وأدب الإسلام، وهي لا تسعى إلى تصفية الحساب مع من أساء إليها بأي درجة من درجات الإساءة، ولكن تصبر وتحتسب وتلجأ إلى القانون الموجود- مع قصوره- في دفع الأذى عن الأفراد أو إزالة معوقات غير متعلقة بنتيجة، وتحتسب ذلك عند الله.
وهي تقوم بما يفرضه عليها واجب دينها ودعوتها حتى ولو أغضب ذلك الحكام، وإن القبول المجتمعي الشعبي لهو المسار الحقيقي لمدى وجود الدعوة وتقدُّمها، وحتى إذا وجدت بعض الفتور والرفض فهذا لا يثنيها عن مواصلة طريقها.
أما الغطاء السياسي أو القبول القانوني، فهو عامل مساعد، وقد يكون مؤقتًا يوفِّر مزيدًا من حرية الحركة.
حول أسلوب الواجهات
هي مؤسسات تُنشئها الجماعة أو مؤيدوها وفق القانون الموجود؛ لتمارس فيها نشاطًا اجتماعيًّا أو سياسيًّا، تقوم فيه بأعمال الإصلاح في المجتمع، حسب القدرة، ولتأدية جزء من رسالة الإسلام.
وقد تنشأ هذه الواجهات والفروع بالتعاون مع آخرين أو تقتصر على أفراد الجماعة، وكلا الأمرين جائز ومتروك لواقع الحال، وتتعدَّد هذه الواجهات من جمعيات أهلية ومراكز دعوية وبحثية، ونواد رياضية وثقافية، وتجمعات أو أحزاب سياسية، ومؤسسات اقتصادية.. إلخ، لكنْ مع بقاء كيان الجماعة العضوي الأساسي بأهدافه ورؤيته الشاملة المعلنة باسمه في المجتمع، وبخطَّته ومنهجه المتكامل وخطابه الموجَّه للمجتمع باسمه، فالجماعة لا يمكن أن تنحصر في إطار محدود أو مؤسسات موضعية أو تتجزَّأ كدعوة وممارسة إلى أنشطة اجتماعية، ومجال سياسي منفصل، فهي أشمل من كل ذلك، وأهدافها ووسائلها ليست خاصةً بقطر دون قطر، ولكنها رسالة الإسلام العامة للأمة كلها وللبشرية جميعًا، وهي تجمع في خطتها ومنهجها بين الإصلاح الجزئي ومنهجية الإصلاح الكلي الشامل.
يقول الإمام الشهيد: "أيها الإخوان المسلمون.. بل أيها الناس أجمعون.. لسنا حزبًا سياسيًّا.. وإن كانت السياسة على قواعد الإسلام من صميم فكرتنا، ولسنا جمعيةً خيريةً إصلاحيةً وإن كان عمل الخير والإصلاح من أعظم مقاصدنا، ولسنا فرقًا رياضيةً، وإن كانت الرياضة البدنية والروحية من أهم وسائلنا، لسنا شيئًا من هذه التشكيلات، فإنها جميعًا تبرِّرها غاية موضعية محدودة لمدة معدودة.. ولكننا- أيها الناس- فكرة وعقيدة، ونظام ومنهاج، لا يحدده موضع ولا يقيِّده جنس، ولا يقف دونه حاجز جغرافي، ولا ينتهي بأمر حتى يرث الله الأرض ومن عليها؛ ذلك لأنه نظام رب العالمين، ومنهاج رسوله الأمين" أ.هـ (من رسالة: الإخوان تحت راية القرآن صـ197).
ويقول أيضًا عن شمول الدعوة لكل المجالات: "فهي- أي دعوة الإخوان- دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية.. إلخ" أ.هـ (من رسالة المؤتمر الخامس صـ123).
وولاء الأفراد وارتباطهم في هذه الفروع يكون أساسًا للجماعة وقيادتها، ومنه يدرك الأخ كيف يؤدي دوره داخل المنفذ، واضعًا الأهداف الإسلامية التي تعمل عليها الجماعة أمامه، ويحرص على أن يكون العمل بطريقة مؤسسية شورية داخل هذه الأوعية والكيانات الفرعية، وضمن القانون العام لها.
ولا يُشترط في هذه الواجهات والفروع الاسم (أي اسم الإخوان) أو حتى أي اسم إسلامي، ولا بد أن تتوفر فيها هذه الضوابط:
1- أن تلتزم في نشأتها وأدائها بالإطار القانوني المسموح به في المجتمع.
2- ألا يكون فيما تمارسه أو تدعو إليه مخالفةٌ لحكم شرعي متفق عليه، أو ارتكاب معصية نهى عنها الشرع.
3- أن يدرك الأفراد القائمون عليها من الجماعة أن هذه الواجهة أو ذاك المنفذ يعمل في إطار الإصلاح الجزئي وتأدية جزء من رسالة الإسلام، لكنْ مع وضوح الرؤية الشاملة والفهم الواسع للإسلام لديهم، والعمل له.
4- أن يكون ولاؤها وارتباطها الأصلي هو بالجماعة وكيانها الأصيل، وما ينبني عليه من برنامج تربوي وأهداف دعوية وتوجيه سديد، ولا تعتبر أن هذا الوعاء الذي تعمل به هو الأصل أو أنه موازٍ للجماعة أو بديلٌ عنها.
5- ألا يكون في مواقفها وحركتها ما يعارض أهداف الجماعة وخط سيرها.
6- أن تحسن التعامل مع الآخرين واستيعابهم وحسن توجيههم لخدمة الإسلام والوطن والمشاركة معهم في ذلك.
7- أن تحرص على الإخلاص والتجرُّد في عملها، وضبط سلوك أفرادها المالي والأخلاقي، وللجماعة أن تراقب هذا الجانب في سلوك أفرادها العاملين بتلك الواجهات وتحاسبهم عليه.
إن حركة الجماعة بكل أفرادها وواجهاتها في المناشط المختلفة وفي الأحداث وبين الجماهير- سواء باسم الجماعة أو بالأفراد المعروف انتماؤهم إليها، وفي مجالات الإصلاح الاجتماعي والحراك السياسي- تفرض نفسها كشرعية حقيقية داخل المجتمع في عقول وأذهان وقلوب أفراد المجتمع وتياراته وكياناته المختلفة، حتى وإن رفض نظام الحكم إعطاء الشرعية القانونية للجماعة، أو أخذ في مضايقتها وعرقلة حركتها، وبالتالي فإن هذا النضال الدستوري والكفاح السياسي مسارٌ أساسيٌّ ومهمٌّ في منهجية الدعوة وحركتها.
الموقف من القانون الوضعي
القانون يشمل مع النص التطبيق والممارسة له، وقد يكون الخلل في أحدهما، وقد يكون الخلل في كليهما.
والنص الدستوري بأن مصدر التشريع في الدولة هو الشريعة الإسلامية، يجعلها المرجعية الأساسية والميزان الحاكم الضابط لأي قانون، وإن كان هذا الحق ثابتًا وقائمًا لها حتى بدون هذا النص، ولكن الواقع في هذا المجال حاليًّا يشير إلى أنه يكاد لا يلتفت إلى هذا الأصل الدستوري.
وبالتالي تواجه الجماعة منظومةً قانونيةً، بعضها له الصفة الدستورية الحقيقية المعبِّرة عن إرادة الأمة، وبعضها يُسيء الحاكم استخدامه وتطبيقه، وبعضها يتمكَّن الحاكم من خلال نظامه المستبدّ من سنِّ القوانين حسب هواه ووفق مصلحته الشخصية التي يحددها هو، حتى عُرف في مجتمعنا مصطلح "القوانين سيئة السمعة"، والجماعة في تعاملها مع القانون، ومن حرصها على وحدة المجتمع وعدم إثارة القلق والفتنة فيه، تنطلق أساسًا من احترام القانون والتعاون على الخير والإصلاح؛ لأن استقرار حالة المجتمع يتماشى مع أهداف الجماعة وحرصها على مقدَّرات الأمة، ويساعد على نمو الدعوة وتقدم المجتمع، أما الفوضى والتخريب فهو ضد سياسة الجماعة وأهدافها.
وهذا الأصل في رؤية الجماعة تجاه القانون ينبع من الرؤية الشرعية في هذا المجال، ومن الضابط الشرعي "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" (حديث شريف)؛ أي أن القانون الذي فيه مخالفة واضحة ومعصية متفق عليها بين الفقهاء لا يجوز للجماعة أن تمارسه وترتكب به تلك المعصية، بل إنه في الأصل القانوني فاقدٌ أيضًا للشرعية الدستورية (مثل قوانين إباحة الخمر- وإباحة الزنا- والربا.. إلخ)، وقد يكون هناك قوانين تمنع الأفراد أو الأمة من قول كلمة الحق أو تقيِّد حريتهم وتستبدُّ بهم أو تمنعهم من المطالبة بحقوقهم وفق الضوابط الإنسانية العامة، أو تمنعهم من التعبير عن مناصرة شعوب العالم العربي والإسلامي وتأييدهم ومساندتهم في قضاياهم، فلا ترضى الجماعة بهذه القوانين ولا توافق عليها، وتسعى بوسائل النضال الدستوري إلى تصحيح هذا القانون وما فيه من مخالفة لشرع الله.
يقول الإمام الشهيد في مواجهة هذا الخلل والفساد: ".. أما الإخوان المسلمون فهم لا يوافقون على هذا القانون أبدًا، ولا يرضونه بحال، وسيعملون بكل سبيل على أن يحلَّ مكانه التشريع الإسلامي العادل الفاضل في نواحي القانون" (من رسالة المؤتمر الخامس صـ140).
وهناك قوانين تنظم أمور الحياة والمجتمع داخل نظام الجواز الشرعي، وقد تكون غير موفقة في تنظيم هذه المجالات؛ كأن يكون فيها قصورٌ أو تجاوزٌ لبعض الحقوق (مثل قوانين الضرائب- قوانين سياسات العمل والعمال.. إلخ).
فهذا تلتزم به الجماعة؛ لأنه من نظام المجتمع الخاضع للاجتهاد البشري، وفي نفس الوقت تسعى إلى إصلاح القانون من خلال مؤسسات المجتمع المنوط بها ذلك، وتبذل النصيحة في هذا الشأن.
إن تربية أفراد الجماعة على احترام الكيان المجتمعي والحرص على مقدَّرات الوطن والأمة واحترام القانون والنظام بصفة عامة؛ هو من متطلَّبات التربية الاجتماعية الأساسية عند دعوة الإخوان، ولهذا نجد الجماعة وأفرادها حريصين على أمن الوطن ومصلحته، وعلى وحدة الأمة وعلى مقدَّراتها، ويعتبرون هذا واجبًا شرعيًّا، وضمن أهدافهم، وإن منهج الجماعة وسياستها ومواقفها المختلفة طوال تاريخها كانت تنطلق من هذه الرؤية وذلك الأساس.
نوجز الموقف العملي من القانون في هذا الإطار:
أ- قوانين تتفق مع الشريعة الإسلامية، وهذه توسِّع تأثيرها وتفعِّل تنفيذها.
ب- قوانين لا تخالف الشريعة، وهي تنظم حياة الناس، ضمن الاجتهاد البشري وهذا نحترمه وننصح فيه ليأتي محققًا لهذا الأمر.
ت- قوانين تخالف الشريعة، إما أنها تمنع حقًّا شرعيًّا أو تفرض رأيًا مخالفًا أو تؤدي إلى معصية.
وهنا يكون التعامل حسب الأصل وحجم الخلل؛ كالآتي:
1- رفض ما فيه معصية لله، وعدم الرضا به، والرفض الواضح لكل ما يخالف أحكام الإسلام، فهو المرجعية العليا، ونتحمَّل ما يترتب على ذلك من تضحيات.
2- التزام المكره، وتطبيق حدود الشرع وضوابطه في حالة الإكراه، وحسب حجم الخلل.
3- إيصال الحقوق لأصحابها قدر الاستطاعة.
4- عدم تنفيذ ما فيه معصية، سواء أباحها القانون أو فرضها، ونتحمَّل ما يترتب على ذلك من تضحيات.
5- الدعوة إلى التغيير لهذا القانون وغيره، ومواجهة الانحراف في تطبيقه بالوسائل السلمية والقانونية الموجودة في المجتمع.
الفرق بين الدولة والنظام الحاكم
هناك فرق بين الدولة كمؤسسة تشكِّل جزءًا من المجتمع، وهي قمته والمعبِّرة عنه، ولها أركان وأسس تقوم عليها، وبين النظام كمجموعة أشخاص تشغل هذه المؤسسة وتعمل من خلالها.
وهذا الفرق مهمٌّ جدًّا؛ فإن مصلحة الوطن والدولة لها اعتبارها الشرعي والإنساني في حياة الناس، وهم مطالبون بالحرص عليها وتقوية دعائمها والارتقاء بها، أما النظام فهو بمقدار التزامه بهذه المؤسسية وأدائه للواجبات التي تفرضها عليه مصلحة الوطن وتحقيق قوة الدولة، بمقدار قيامه بذلك يكون ميزان التعامل والتقدير له واحترام ما يقوم به.
أما إذا كان يسعى إلى مصلحته الشخصية وإحكام قبضته وسيطرته دون اعتبار إرادة الأمة، ويستغل هذا الموقع في سنِّ القوانين بل وحتى تغيير الدستور، بما يمكنه من تحقيق أغراضه دون الضوابط الشرعية والأصول الدستورية، والإرادة الحرة للأمة؛ فهذا ليس له اعتبار، ولا وزن له في مصلحة الوطن وسلامة الدولة، وهو صورة فاسدة تشابه صورة النظام الملكي الذي يعتبر الدولة هي شخصه، ويختصر الوطن في نفسه وحاشيته، وهي صورة فاسدة كذلك تشابه صورة أصحاب ادِّعاء الحق الإلهي والقداسة الشخصية يحكمون بها باسم الله، والله منهم بريءٌ كما شاهدنا في سيطرة الكنيسة على الدولة في العصور الوسطى.
وفي هذه الحالة يجب أن تميز الأمة وكل مؤسساتها بين هذين الجانبين، بين الدولة والوطن وبين أشخاص النظام ولا يخلطون بينهما، فالوطن والدولة باقية، والأشخاص زائلون متغيرون، ويكون التطابق هنا هو بمدى التزام أشخاص النظام بالوطن ومصلحة الدولة واحترام إرادة الأمة.
وعلى المؤسسات العاملة في المجتمع والخاضعة بحكم السيطرة من أشخاص هذا النظام أن تتقي الله في الحفاظ على مصلحة الوطن، وألا تنحرف أو تتجاوز في عملها بالمثل مجاراةً أو تقليدًا لهم، وأن تعرف أن بعض الإجراءات والمطالبات أو حتى بعض القوانين التي يقوم بها النظام لحماية أشخاصه وكراسيه هي إجراءاتٌ ظالمةٌ متغيرةٌ، فيجتهد في الإصلاح قدر الطاقة عند التنفيذ من باب الإكراه العملي مع عدم رضا القلب ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾ (النحل: من الآية 106).
أما من وافقهم ورضي بذلك وعاونهم فهو يحمل من الإثم مثل ما يحملون، وهذا فرعون وهامان وقارون لم يدخلوا هم فقط النار، بل دخل معهم جنودهم وأتباعهم ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾ (القصص: من الآية 8).
والجماعة في معارضتها أو خلافها مع النظام لا يكون هذا الأمر على حساب مصلحة الدولة والوطن، فتراعي ذلك في الوسائل التي تسلكها وفي المواقف التي تتخذها.
والجماعة لا تعتبر نفسها فوق أحد، أو تجعل نفسها في كفة والآخرين في كفة أخرى، ولكنها تنطلق من أنها صاحبة دعوة ورسالة تؤمن بها، وترى أن عليها واجب أداء هذه الرسالة؛ إنقاذًا لنفسها وخدمةً لوطنها وأمتها.
والإسلام وأحكامه هو الذي يشكِّل المرجعية العليا للجماعة ولأي تجمع أو كيان آخر، وهو كذلك يُعتبر الضابط الحاكم لأي قانون ويمنع عنه الشرعية إذا خالف قواعده ومبادئه الأساسية.
وليس هذا الحق للجماعة أو لأي كيان آخر، أن يجعل نفسه المرجعية، أو أن يحتكر الحديث عن الإسلام، أو يوزِّع الشرعية على هذا أو ذاك وفق رؤيته وهواه.
ـــــــــــــــــــــــ
* عضو مكتب الإرشاد.

