تكشف خطة وزارة البترول لتقليص استهلاك الغاز والمازوت بمحطات الكهرباء بنحو 12% في صيف 2026 عن محاولة جديدة من حكومة الانقلاب للهروب من كلفة فشلها الاقتصادي عبر تحميل المجتمع فاتورة سوء الإدارة، بدلًا من الاعتراف بعجزها عن إدارة ملف الطاقة، رغم كل الدعاية عن "مركز إقليمي للطاقة" و"الاكتفاء الذاتي من الغاز".

 

لغة الأرقام التي جرى تسريبها تكشف نزيفًا مستمرًا في فاتورة الاستيراد، وانكشافًا كاملًا أمام الغاز الإسرائيلي، وتهديدًا غير معلن بعودة سيناريو تخفيف الأحمال وانقطاع التيار في ذروة الصيف.

 

نزيف الغاز.. من "اكتفاء ذاتي" إلى استغاثة بالدولار

 

توضح المعطيات أن الدولة انتقلت خلال سنوات قليلة من خطاب "الاكتفاء الذاتي وتصدير الغاز" إلى واقع مرير تتحمل فيه وزارة البترول فاتورة استيراد تقارب 1.1 مليار دولار شهريًا في صيف 2025، مقابل 580 مليونًا فقط في صيف 2024، أي تضاعف تقريبًا خلال عام واحد، ما يعكس عمق أزمة العملة الصعبة والاعتماد المفرط على الاستيراد بدلًا من التخطيط للإنتاج المستدام.

 

– طلب وزارة البترول من الكهرباء خفض استهلاك الوقود بمحطات التوليد الحرارية بنسبة 12% في صيف 2026 ليس قرارًا "فنّيًا" بقدر ما هو استغاثة مالية لتقليص فاتورة استيراد الغاز المسال بما بين 150 و200 مليون دولار شهريًا.

 

– اعتراف المصدر بأن إيجاس هي من تتحمل "كامل عبء استيراد الغاز وتسديد مستحقات الموردين العالميين" يعني أن الدولة تدير الملف بمنطق إطفاء الحرائق، لا بمنطق استراتيجية طاقة متكاملة.

 

– الأخطر أن محطات الكهرباء تستهلك أكثر من 3.8 مليارات قدم مكعب يوميًا في الصيف مقابل 3.1 مليارات في الشتاء، ومع أي تعثر في الاستيراد أو تمويله يصبح انقطاع التيار خيارًا مطروحًا بصمت، رغم كل محاولات طمأنة الرأي العام.

 

بهذا المعنى، لا يبدو تقليص استهلاك الوقود "إصلاحًا رشيدًا"، بل اعترافًا عمليًا بأن نموذج "المركز الإقليمي للطاقة" لم يكن سوى دعاية سياسية تخفي تبعية حقيقية لأسواق الغاز العالمية، وعجزًا عن حماية أمن الطاقة الوطني.

 

ارتهان للكهرباء والغاز الإسرائيلي.. أمن قومي معروض للاستيراد

 

تكشف الأرقام المتعلقة بشحنات ديسمبر/كانون الأول وحده حجم الارتهان الخارجي:

 

– تدبير نحو 1.5 مليار قدم مكعب يوميًا عبر الغاز المسال المستورد، بمتوسط سعر 14 دولارًا للمليون وحدة حرارية، رقم يعكس كلفة هائلة على موازنة دولة تعاني أصلًا من عجز بالدولار.

 

– الاعتماد على من 900 مليون إلى مليار قدم مكعب يوميًا من الغاز الإسرائيلي بسعر 7.7 دولارات للمليون وحدة حرارية يعني أن جزءًا حيويًا من تشغيل محطات الكهرباء والصناعة أصبح مربوطًا بعقدة جيوسياسية مع كيان الاحتلال، يمكن استخدامها كورقة ضغط في أي لحظة توتر إقليمي.

 

ورغم ذلك، تصر الحكومة على تسويق هذا الارتهان باعتباره "فرصة استثمارية"، وتتجاهل أن أي اضطراب في إمدادات الغاز الإسرائيلي أو أسعار الغاز المسال العالمية سينعكس مباشرة في شكل انقطاعات، أو زيادات جديدة في أسعار الكهرباء، أو تقليص إمدادات الغاز للصناعة بذريعة "إعطاء الأولوية للكهرباء".

 

التصريحات الرسمية عن توجيه أي زيادة مستقبلية في إنتاج الغاز "للصناعة والبتروكيماويات لتعظيم القيمة المضافة" تبدو على الورق منطقية، لكنها في الواقع تعكس أولوية واضحة: خدمة المشروعات الرأسمالية والقطاع الصناعي الثقيل على حساب استقرار الخدمة للمواطن، مع التعهد في الوقت نفسه بأن "حصة الكهرباء لن تُمس"، رغم أن خفض استهلاك الوقود نفسه يفضح هذه الازدواجية.

 

طوق نجاة متجدد أم غطاء لتقنين العجز؟

 

تستند الحكومة في تبرير خطتها إلى رهان على ثلاثة مسارات: الإسراع في مشروعات الطاقة المتجددة، والربط الكهربائي مع السعودية، وجلب الغاز القبرصي واليوناني بعد 2027. على الورق تبدو هذه المسارات "رؤية طويلة الأجل"، لكن في سياق الأزمة الحالية تتحول إلى غطاء لتأجيل الانفجار، وليس لتغيير قواعد اللعبة.

 

– تسريع مشروعات الطاقة المتجددة وربطها بخفض استهلاك الوقود في صيف 2026 يأتي بعد سنوات من استخدام هذه المشروعات كـ"ديكور أخضر" في المؤتمرات، دون أن يُترجم إلى تخفيف فعلي للأعباء عن محطات الغاز.

 

– الربط الكهربائي مع السعودية يُسوَّق كبديل عن زيادة إنتاج الغاز المحلي، لكنه يعني عمليًا استيراد كهرباء من الخارج لسد العجز، بدلًا من معالجة جذور المشكلة في الداخل.

 

– التعويل على ربط أول حقل غاز قبرصي في 2027، ثم آخر بعد عامين ونصف، يعكس أن السلطة تفكر بعقلية "استيراد دائم" وإعادة تصدير عبر الإسالة، بينما المواطن يدفع الآن ثمن انتظار مشروعات مؤجلة لن تحل أزمة صيف 2026.

 

حتى تصريح وزير البترول عن أن الاعتماد على الطاقة المتجددة سيوفر 3.5 مليارات دولار يبدو أقرب إلى "وعد سياسي" منه إلى حصيلة خطة شفافة معلنة بتواريخ وأرقام، في ظل غياب أي نقاش مجتمعي أو برلماني جاد حول نموذج الطاقة الذي تريده مصر خلال عقد مقبل.

 

في المحصلة، ما يُقدَّم كخطة "ترشيد" و"تنويع مصادر الطاقة" هو في جوهره إدارة أزمة نقد أجنبي خانقة، وإعادة ترتيب أولويات تخدم المستثمرين ومشروعات التصدير أولاً، بينما يُترك المواطن يواجه شبح "صيف أسود" جديد، إما عبر ارتفاعات جديدة في أسعار الكهرباء، أو عبر عودة الانقطاعات تحت أي مسمى آخر غير اسمه الحقيقي: فشل حكومة الانقلاب في تأمين حق الناس في طاقة مستقرة وبسعر عادل.