بينما تئن البيوت المصرية تحت وطأة موجة شرسة من الإصابات التنفسية التي حولت المنازل إلى ما يشبه المستشفيات الميدانية، فيما شهدت العيادات الخارجية السبت زحاما وتكدسا كبيرا، تواصل حكومة الانقلاب سياسة "الإنكار الممنهج" والتعامل باسترخاء مع كارثة صحية تنهش أجساد المواطنين.

 

حالة من الرعب غير المسبوق تجتاح الشارع المصري، تغذيها مشاهد اكتظاظ عيادات الصدر والطوارئ بمرضى يعانون أعراضاً تتجاوز حدة "الإنفلونزا الموسمية" المعتادة، وسط مخاوف من تفشي متحور "ستراتوس" (XFG.5.3) الجديد أو فيروس مجهول الهوية، في حين تصر وزارة الصحة على ترديد أسطوانتها المشروخة: "الوضع آمن ولا داعي للقلق".

 

هذه الهوة الواسعة بين "نار الواقع" و"برود التصريحات الرسمية" أعادت للأذهان كوابيس جائحة كورونا الأولى، حيث يواجه المواطن وحيداً أشباح المرض وغلاء الدواء، بينما تكتفي الدولة بدور "المتفرج" الذي ينفي وجود الأزمة بدلاً من إدارتها، مما يضاعف من حالة الاحتقان الشعبي وفقدان الثقة في المنظومة الصحية المتهالكة.

 

"ستراتوس" يطرق الأبواب.. والمواطن يدفع ضريبة "التعتيم"

 

رغم تطمينات وزارة الصحة، يؤكد الواقع الميداني أن ما يحدث ليس مجرد "دور برد موسمي". فالأعراض التي يشكو منها المصابون – من ارتفاع مفاجئ وعنيد في الحرارة، تكسير حاد في العظام، وضيق تنفس يتطور سريعاً لانتكاسات رئوية – تشير إلى خصائص فيروسية أكثر شراسة.

 

وفي هذا السياق، يشير الدكتور إسلام عنان، أستاذ اقتصاديات الصحة وعلم انتشار الأوبئة بجامعة عين شمس، إلى أن الارتفاع العالمي في الإصابات يرتبط بانتشار متحور "ستراتوس"، الذي بات الأكثر انتشاراً في 38 دولة، ويتميز بقدرة عالية على "الهروب المناعي" من اللقاحات السابقة.

 

ورغم تأكيد "عنان" أن المتحور الجديد يعتمد على سرعة الانتشار أكثر من الشراسة، إلا أن غياب الشفافية في البيانات الرسمية المصرية حول نسبة انتشار هذا المتحور محلياً يترك المواطنين فريسة للشائعات والاجتهادات الشخصية في العلاج. ويرى مراقبون أن تقليل الحكومة من شأن الأزمة هو استراتيجية هروب من استحقاقات توفير بروتوكولات العلاج بالمستشفيات، وترك المواطنين لمواجهة مصيرهم مع أسعار الأدوية التي تضاعفت مؤخراً.

 

من جانبه، يحذر الدكتور أمجد الحداد، استشاري الحساسية والمناعة، من خطورة الخلط بين الإنفلونزا والمتحورات الجديدة، مؤكداً أن "هناك تداخلًا كبيراً في الأعراض، لكن ما نراه هذا الموسم هو شراسة غير معتادة في أدوار البرد، قد تكون ناتجة عن ضعف المناعة المجتمعية أو تحورات فيروسية لم يتم رصدها بدقة بسبب ضعف منظومة الترصد الجيني في مصر".

 

انهيار جدار الثقة.. وزارة الصحة "شاهد ما شفش حاجة"

 

في مشهد عبثي متكرر، خرج حسام عبد الغفار، المتحدث باسم وزارة الصحة، ليمارس دوره المعتاد في "تخدير الرأي العام"، نافياً وجود أي فيروس جديد ومعتبراً أن ما يحدث هو "زيادة موسمية طبيعية". هذا التصريح أثار موجة سخط بين الأطباء قبل المرضى.

 

يعلق الدكتور محمد علي، الطبيب بمستشفيات الحميات (اسم مستعار خوفاً من الملاحقة)، قائلاً: "الوزارة تعيش في كوكب آخر. أقسام الطوارئ لدينا ممتلئة بحالات تعاني من التهابات رئوية حادة لا تستجيب للمضادات الحيوية التقليدية. إنكار وجود متحور جديد أو فيروس غامض هو جريمة في حق المرضى، لأنه يؤخر التشخيص الصحيح ويوهم الناس بأمان زائف يدفعهم للتخلي عن الإجراءات الاحترازية."

 

ويتفق معه الدكتور طه عبد الحميد، أستاذ الصدر والحساسية بجامعة الأزهر، الذي أشار في تصريحات صحفية سابقة إلى أن "التغير المناخي وانتشار الفيروسات المخلوطة (كوكتيل الفيروسات) أدى لظهور سلالات أكثر مقاومة للأدوية، وأن النظام الصحي يجب أن يعترف بهذه الحقيقة بدلاً من دفن الرأس في الرمال"، مشدداً على أن الوضع الحالي يتطلب استنفاراً طبياً لا بيانات نفي مكتبية.

 

المنظومة الصحية: عجز في الأدوية وفوضى في التشخيص

 

تفاقمت الأزمة ليس فقط بسبب الفيروس، بل بسبب انهيار البنية التحتية الدوائية. فالمواطنون الذين يصدقون الرواية الرسمية بأنها "مجرد إنفلونزا" يفاجأون بعدم جدوى المسكنات العادية، وحين يلجأون للمستشفيات يصطدمون بقوائم انتظار ونقص حاد في أدوية المناعة وموسعات الشعب الهوائية.

 

تؤكد الدكتورة منى مينا، وكيلة نقابة الأطباء السابقة، أن "غياب الشفافية هو العدو الأول للصحة العامة. عندما تنفي الوزارة وجود وباء، فإنها عملياً ترفع يدها عن توفير مستلزمات المكافحة في المستشفيات الحكومية، وتلقي بالعبء المالي على المواطن الذي يضطر للذهاب للقطاع الخاص"، مشيرة إلى أن هذا النمط من الإدارة يعكس استهانة صريحة بأرواح البسطاء.

 

وفي السياق ذاته، يرى الدكتور محمد عز العرب، المستشار الطبي للمركز المصري للحق في الدواء، أن "المشكلة لا تكمن فقط في نوع الفيروس، بل في قدرة النظام الصحي على استيعاب المضاعفات. هناك زيادة واضحة في الحالات التي تحتاج لرعاية مركزة، والإنكار الرسمي يعطل توجيه الموارد اللازمة لهذه الأقسام الحرجة، مما يهدد بارتفاع معدلات الوفيات الصامتة التي لا تُسجل كوفيات أوبئة".

 

إن إصرار حكومة السيسي على سياسة "كل شيء تمام" بينما تضج الصدور بالسعال والبيوت بالأنين، يثبت مجدداً أن الأمن الصحي للمصريين يقع في ذيل أولويات نظام يرى في المكاشفة تهديداً لاستقراره، وفي الحقيقة "فيروساً" يجب محاربته أكثر من المرض نفسه.