أثارت قضية تطوير القاهرة التاريخية وما يصاحبها من عمليات نقل لرفات بعض الشخصيات البارزة جدلاً مجتمعياً وثقافياً واسعاً، تصاعدت وتيرته مؤخراً بعد المناشدة المؤثرة التي وجهتها أسرة الشيخ المقرئ محمد رفعت، الملقب بـ"قيثارة السماء"، إلى قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي.

 

القضية لم تعد مجرد إجراء هندسي أو تنظيمي، بل تحولت إلى نقاش عميق حول كيفية الموازنة بين متطلبات التحديث العمراني وضرورة الحفاظ على الرموز الروحية والتراثية التي تشكل وجدان المصريين.

 

صرخة الأسرة ووصية الشيخ

 

جاءت مناشدة أسرة الشيخ محمد رفعت كحجر ألقي في مياه راكدة، معيدةً الزخم لقضية التعامل مع الجبانات التاريخية. فقد وجهت حفيدة الشيخ رسالة مباشرة وعاطفية إلى مؤسسة الرئاسة، تطالب فيها بعدم المساس بمدفن جدها الواقع في منطقة السيدة نفيسة.

 

وشددت الأسرة في خطابها على نقطة جوهرية، وهي رفضهم القاطع لنقل جثمان الشيخ محمد رفعت تحديداً، مشيرين إلى أن وصية الشيخ كانت واضحة بدفنه في هذا المكان، وهو ما يضفي بعداً شرعياً وروحياً على المطلب يتجاوز البعد القانوني المجرد.

 

وأبدت الأسرة مرونة واضحة في التعامل مع الموقف، حيث صرحت الحفيدة بأن اعتراضهم ينصب على رفات الشيخ رفعت فقط، وأنهم لا يمانعون نقل رفات أفراد العائلة الآخرين المدفونين معه إذا اقتضت الضرورة القصوى ذلك. هذا الموقف يعكس إدراك الأسرة لأهمية الشيخ كرمز وطني وإسلامي يتجاوز كونه مجرد جد للعائلة، بل هو ملك لملايين المحبين حول العالم.

 

كما اقترحت الأسرة حلاً بديلاً يتمثل في تحويل المقبرة الحالية إلى مزار سياحي وديني، يستقبل عشاق تلاوة الشيخ من مصر والعالم الإسلامي، مما يساهم في تعزيز السياحة الدينية والحفاظ على "الهوية المكانية" للقاهرة القديمة، بدلاً من طمسها تحت عجلات التطوير.

 

ورغم احترامهم للمقبرة البديلة المقترحة في "مقابر الخالدين"، إلا أنهم يرون أن قيمة الشيخ مرتبطة بمكانه الحالي الذي زاره فيه البسطاء والملوك على حد سواء.

 

التطوير العمراني في مواجهة التراث: معادلة صعبة

 

تضع هذه الأزمة الحكومة المصرية أمام اختبار صعب للموازنة بين خطط التنمية والحفاظ على التراث.

 

فالمناشدة تأتي في سياق حملة حكومية واسعة لتطوير شبكة الطرق والكباري في القاهرة، وهي مشاريع تهدف إلى فك الاختناقات المرورية التي تعاني منها العاصمة منذ عقود.

 

ومع ذلك، اصطدمت هذه المشاريع بواقع تاريخي معقد، حيث تمر المسارات المقترحة عبر مناطق "جبانات القاهرة" التي تضم رفات علماء، وأدباء، وزعماء سياسيين، وشيوخ أزهر شكلوا تاريخ مصر الحديث.

 

ويرى المؤيدون لخطط الدولة أن التطوير ضرورة حتمية لمواكبة الزيادة السكانية وتسهيل حركة المرور، وأن نقل المقابر ليس بدعة، بل إجراء حدث في عهود سابقة ولضرورات المصلحة العامة، مع التأكيد على توفير أماكن بديلة لائقة تسمى "مقابر الخالدين" لتكريم الرموز.

 

في المقابل، يرى المعارضون، ومنهم معماريون وأثريون، أن هذه المناطق ليست مجرد "مقابر" بل هي "مدن للموتى" ذات طراز معماري فريد، وجزء لا يتجزأ من نسيج القاهرة التاريخية المسجلة في اليونسكو.

 

ويعتبرون أن إزالة قبر شخصية بحجم الشيخ رفعت هو "تهديد للذاكرة الثقافية"، وأن الحلول الهندسية يجب أن تتكيف مع التاريخ لا أن تدهسه، مقترحين بدائل هندسية مثل الأنفاق أو تحويل المسارات لتفادي المناطق ذات القيمة العالية.

 

الرأي العام والمطالب بآليات شفافة

 

أفرزت قضية مقبرة الشيخ رفعت حالة من الاصطفاف الشعبي والثقافي، حيث ضجت وسائل التواصل الاجتماعي بتسجيلات نادرة للشيخ وتدوينات تطالب بتكريمه في مرقده لا نقله. ويرى مراقبون أن هذه الحالة تستدعي وقفة لمراجعة آليات التعامل مع المناطق التراثية.

 

فالقاهرة القديمة، بما تحتويه من شواهد أثرية وقبور لشخصيات تاريخية، تحتاج إلى لجنة عليا تضم خبراء في التراث والتخطيط العمراني والمجتمع المدني، لوضع معايير واضحة وشفافة تحدد ما يمكن نقله وما يجب الحفاظ عليه "خط أحمر".

 

إن الحفاظ على التراث لا يعني تجميد التطوير، بل يعني دمج التاريخ في المستقبل. وقضية الشيخ محمد رفعت ليست مجرد قصة قبر مهدد بالنقل، بل هي رمز لصراع الهوية في مواجهة الحداثة.

 

وبينما تنتظر الأسرة -ومعها قطاع عريض من المصريين- استجابة الرئاسة، يظل السؤال قائماً: كيف يمكن لمصر أن تبني طرقاً للمستقبل دون أن تهدم جسوراً مع ماضيها العريق الذي يمثله صوت "قيثارة السماء"؟