في تطور غير مسبوق يمس الوجدان الجمعي والبعد العقائدي للمصريين، تتجه الحكومة المصرية نحو توسيع دائرة الخصخصة لتشمل "الجبانات والمقابر"، في خطوة يصفها مراقبون بأنها تكسر آخر المحرمات الاجتماعية.

 

فبعد السيطرة على الأصول الاقتصادية والموانئ والمطارات، كشفت مصادر مطلعة عن تحركات حكومية مكثفة بالتنسيق مع جهات سيادية وشركات قطاع خاص -أبرزها شركة "سُكنة"- لإعادة هيكلة منظومة دفن الموتى، ونقل المقابر التاريخية والعامة من قلب القاهرة إلى أطرافها الصحراوية بحلول عام 2030.

 

المخطط الجديد لا يقتصر على تنظيم العشوائيات كما يُروج له رسمياً، بل يمتد ليشمل تعديلات تشريعية جذرية تفتح الباب أمام تحويل المقابر من "نفع عام" تديره المحليات برسوم رمزية، إلى "مشروع استثماري" تدريه شركات خاصة بمنطق الربح والخسارة.

 

وتأتي هذه التحركات وسط تكتم رسمي ومحاولات لجس نبض الشارع، في وقت يعاني فيه المواطن من أعباء معيشية طاحنة جعلته يخشى ألا يجد "قبر الحياة" ولا "قبر الممات".

 

قانون "الجبانات" الجديد: بوابة العبور نحو "بزنس الموت"

 

تستند الخطة الحكومية، بحسب التسريبات، إلى تعديل قانون الجبانات الحالي رقم 5 لسنة 1966، الذي ينص صراحة في مادته الأولى على أن "تتولى المجالس المحلية إنشاء الجبانات وصيانتها وإلغاءها"، معتبراً أراضي المقابر أموالاً عامة لا يجوز تملكها إلا بنظام حق الانتفاع.

 

المقترحات الجديدة، التي أعدتها شركة "سُكنة" بالتنسيق مع الأجهزة المعنية، تستهدف نزع هذه الصفة الخدمية البحتة، والسماح للشركات الخاصة بإدارة وتشغيل مجمعات الدفن، وتحديد أسعار الخدمات الجنائزية وفق آليات السوق الحر.

 

في هذا السياق، يحذر الخبير القانوني والحقوقي نجاد البرعي من خطورة العبث بالنصوص القانونية المنظمة لهذا القطاع الحساس. يرى البرعي أن "خصخصة المقابر هي اعتداء مباشر على حق دستوري أصيل للمواطن في الستر بعد الموت".

 

ويضيف: "القوانين الحالية وضعت لضمان أن يجد أفقر مواطن مكاناً يوارى فيه الثرى كمسؤولية للدولة، أما التعديلات المقترحة فستحول هذا الحق إلى سلعة لمن يدفع أكثر، مما يخلق طبقية حتى في القبور، ويهدد ملايين الأسر بعدم القدرة على دفن موتاهم إلا في مناطق نائية وبأسعار فلكية، وهو ما يعد انتهاكاً لكرامة الإنسان الميت وحق أهله".

 

مقبرة الخالدين وطمس الهوية: التراث تحت جرافات الاستثمار

 

الجزء الأكثر إثارة للجدل في المخطط هو نقل رفات الشخصيات التاريخية والمقابر التراثية من القاهرة القديمة (مثل القرافة ومقابر الإمام الشافعي) إلى مجمع جديد تحت مسمى "مقبرة الخالدين". ورغم التبريرات الحكومية بأن الهدف هو التطوير، يرى المختصون أن الدافع الحقيقي هو إخلاء أراضٍ ذات قيمة استثمارية هائلة في قلب العاصمة لبيعها أو استغلالها عقارياً.

 

تعلق الدكتورة جليلة القاضي، أستاذة التخطيط العمراني ومديرة الأبحاث بالمعهد الفرنسي للبحوث من أجل التنمية (IRD)، واصفة ما يحدث بأنه "جريمة اغتيال للذاكرة الوطنية". تؤكد القاضي أن "جبانات القاهرة ليست مجرد أماكن للدفن، بل هي مدينة للموتى مسجلة على قائمة التراث العالمي لليونسكو، وتحوي فنوناً ونقوشاً إسلامية لا مثيل لها".

 

وتضيف محذرة: "نقل الرفات وفصل القبر عن سياقه المعماري والتاريخي هو تدمير للقيمة الأثرية. التعامل مع المقبرة كـ(متر أرض) يمكن بيعه لمستثمر عقاري هو قمة التسليع للتاريخ، وسيفقد القاهرة جزءاً أصيلاً من روحها وهويتها البصرية التي تشكلت عبر مئات السنين".

 

الفقراء يدفعون الثمن "أحياءً وأمواتاً"

 

البعد الاجتماعي للكارثة يبدو هو الأقسى، حيث تستهدف الخطة نقل 2134 فداناً من المقابر الحالية إلى الظهير الصحراوي وتخصيص 10 آلاف فدان جديدة، ستكون إدارتها بالكامل خاضعة للمنظومة الاستثمارية الجديدة. هذا يعني ارتفاعاً جنونياً في تكلفة الدفن، بدءاً من حجز المقبرة، مروراً بخدمات التغسيل والتكفين، وصولاً إلى مصاريف الصيانة السنوية التي قد تفرضها الشركات الخاصة.

 

يرى الخبير الاقتصادي الدكتور عبد الخالق فاروق أن هذا التوجه يمثل "انسحاباً وحشياً للدولة من أبسط واجباتها". يقول فاروق: "بعد رفع الدعم عن الغذاء والطاقة، وخصخصة الصحة والتعليم، لم يتبقَ للمواطن الفقير سوى القبر، والآن تسعى الدولة لانتزاعه منه".

 

ويوضح الخبير الاقتصادي أن تحويل الجنازات إلى قطاع ربحي سيزيد من حدة الفقر، ويجبر الأسر على الاستدانة لستر موتاهم. ويختتم تحليله قائلاً: "نحن أمام نظام لا يرى في المواطن سوى (زبون)، ويسعى لتحصيل الجباية منه حتى وهو في النعش، في سابقة لم تشهدها مصر في أحلك عصورها الاقتصادية".