بينما يستمر النظام في بيع الوهم للمواطنين عبر شاشات الإعلام الموجه، وتتحدث الحكومة عن "إنجازات" لا يراها إلا المسؤولون في أحلامهم، كشفت البيانات الرسمية عن كارثة اقتصادية مكتملة الأركان تضرب عصب الدولة المصرية. إذ تشير التقديرات والإحصائيات الحديثة إلى أن ما يقرب من 32% من المنشآت الاقتصادية في مصر لا تعمل بكامل طاقتها الإنتاجية، بل إن جزءاً كبيراً منها توقف تماماً أو يعمل بالحد الأدنى الذي يكفي بالكاد لدفع الرواتب.
هذا الرقم المفزع ليس مجرد إحصائية عابرة، بل هو شهادة وفاة للقطاع الإنتاجي في ظل سياسات "حكومة الانقلاب" التي حولت مصر من دولة تسعى للتصنيع إلى "سوق استهلاكي كبير" يعتمد على الاستيراد والديون. وتؤكد هذه النسبة أن المناخ الاستثماري في مصر بات طارداً، وأن المصانع والشركات تئن تحت وطأة الفساد الإداري، وشح العملة الصعبة، والقرارات الحكومية المتخبطة التي لا تجيد سوى "الجباية" وفرض الضرائب، مما أدى إلى "تكهين" ماكينات الإنتاج وتسريح العمالة، ليدفع الاقتصاد المصري ثمناً باهظاً من مستقبله.
سياسات "تطفيش" الاستثمار: بيئة معادية للصناعة ومحاباة للاقتصاد الريعي
تحت هذا العنوان، يرى الخبراء أن الحكومة الحالية تتبنى نهجاً عدائياً تجاه القطاع الإنتاجي الحقيقي. فالنظام الذي ينفق المليارات على الخرسانة والكباري، يترك المصانع تغلق أبوابها لعدم توفر مواد الخام أو لتعنت الجهات الرقابية.
وفي هذا الصدد، يؤكد الخبير الاقتصادي ونقيب الصحفيين الأسبق ممدوح الولي، أن هذه النسبة (32%) تعكس حالة من "الركود التضخمي" العميق الذي تسببت فيه السياسات المالية والنقدية الفاشلة. ويشير الولي إلى أن توقف ثلث الطاقة الإنتاجية يعني ببساطة أن الدولة تهدر ثلث فرصها في النمو والتشغيل، موضحاً أن الحكومة "تفننت" في وضع العراقيل أمام المنتجين، بدءاً من أزمة الاعتمادات المستندية وصولاً إلى ارتفاع أسعار الطاقة والضرائب الجزافية.
ويحذر الولي من أن استمرار هذا النهج سيؤدي إلى تآكل القاعدة الصناعية لمصر بالكامل، محولاً البلاد إلى دولة تعيش على المعونات والقروض لسد رمق شعبها، بعد أن كانت تمتلك مقومات صناعية واعدة دمرتها الإدارة الفاشلة.
مقصلة الإجراءات والبيروقراطية: حينما تتحول الدولة إلى "تاجر جشع"
لم تكتفِ الحكومة برفع الدعم عن الصناعة، بل زاحمت القطاع الخاص وتحولت إلى منافس غير عادل، وفي الوقت نفسه مارست دور "الجابي" الذي لا يعنيه سوى تحصيل الأموال بغض النظر عن استمرار النشاط.
وهنا يتدخل الخبير الاقتصادي هاني توفيق ليشرح أبعاد الكارثة، مؤكداً أن ارتفاع تكلفة التمويل (الفائدة البنكية) والتقلبات العنيفة في سعر الصرف جعلت من المستحيل على أي منشأة اقتصادية أن تخطط للمستقبل أو تعمل بكامل طاقتها. ويرى توفيق أن الـ 32% المعطلة هي نتاج طبيعي لبيئة أعمال "مسمومة" بالبيروقراطية والقرارات الفجائية، مشيراً إلى أن المستثمر المحلي قبل الأجنبي فقد الثقة في قدرة الحكومة على إدارة الملف الاقتصادي.
ومن زاوية أخرى، تضيف الدكتورة سالي صلاح، الخبيرة الاقتصادية، بُعداً آخر للأزمة، مشيرة إلى أن المنشآت الصغيرة والمتوسطة هي الضحية الأكبر لهذا التعطل. وتؤكد صلاح أن السياسات الحكومية منحازة للكبار وللمشروعات القومية التي لا تدر عائداً سريعاً، بينما تُترك آلاف الورش والمصانع الصغيرة – التي تمثل عصب التشغيل – لتموت ببطء. وتوضح أن تعطل هذه المنشآت يعني تدمير شبكات الأمان الاجتماعي لملايين الأسر التي كانت تعتاش منها، مما يفاقم معدلات الفقر والبطالة بشكل لا تستطيع الأرقام الرسمية تجميله.
غياب الرؤية السياسية: إدارة البلاد بمنطق "المقاول" لا "رجل الدولة"
المشكلة ليست اقتصادية فحسب، بل هي سياسية بامتياز. فالنظام الحالي يفتقد لأي رؤية تنموية حقيقية، ويعتمد على "اللقطة" والمشاريع الدعائية بدلاً من بناء اقتصاد حقيقي.
وفي تحليل سياسي اقتصادي عميق، يرى الدكتور حسن نافعة، أستاذ العلوم السياسية، أن تعطل 32% من المنشآت هو دليل دامغ على فشل "نموذج الحكم" الحالي. ويؤكد نافعة أن النظام لا يمتلك أولويات واضحة، حيث يهدر الموارد الشحيحة في مشروعات بلا جدوى اقتصادية (مثل العاصمة الإدارية) بينما يترك المصانع تتوقف. ويشدد نافعة على أن هذا الوضع يعكس غياب الشفافية والمساءلة، وأن القرارات الاقتصادية تتخذ في "غرف مغلقة" بعيداً عن أهل الخبرة، مما أدى إلى هذه النتائج الكارثية.
ويتفق معه في الرأي الخبير الاقتصادي حسن الصادي، الذي يحذر من أن استمرار تعطل هذه الطاقات الإنتاجية سيقود حتماً إلى "انفجار اجتماعي". ويرى الصادي أن الحكومة الحالية استنفدت كل الحلول الترقيعية، وأن محاولة تغطية الفشل الاقتصادي عبر الاقتراض الخارجي لم يعد مجدياً في ظل توقف عجلة الإنتاج الداخلي. ويختتم الصادي تحذيره بأن الدولة التي لا تنتج لا تملك قرارها، وأن مصر باتت رهينة للدائنين بسبب سياسات النظام التي أغلقت المصانع وفتحت السجون.
ختاماً، تُجمع هذه الآراء على أن رقم الـ 32% هو جرس إنذار أخير قبل الانهيار الشامل. فالدولة التي تعطل ثلث طاقتها الإنتاجية بإرادتها أو بسبب فشلها، هي دولة تسير بخطى ثابتة نحو الهاوية، ولن تفلح المسكنات أو الوعود البراقة في إنقاذ اقتصاد دمرته يد "الجباية" وسوء الإدارة

