في الوقت الذي تروج فيه الدوائر الرسمية لنجاحات اقتصادية مفترضة، أظهرت بيانات وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية أن الاقتصاد المصري سجل معدل نمو تجاوز 5.3% خلال الربع الأول من العام المالي 2025/2026. هذه الأرقام، التي يتم تسويقها كإنجاز لحكومة النظام الحالي، تأتي في وقت يعاني فيه المواطن المصري من أزمات معيشية طاحنة، حيث لم يترجم هذا النمو المزعوم إلى أي تحسن في الخدمات أو انخفاض في الأسعار، بل تزامن مع تآكل غير مسبوق في القوة الشرائية وتوسع مخيف في معدلات الفقر.

 

المفارقة الصارخة تكمن في أن هذا "النمو الرقمي" مدفوع بقطاعات لا تلمس حياة الفقراء بشكل مباشر، مثل السياحة والاتصالات، بينما تئن القطاعات الإنتاجية الحقيقية تحت وطأة الضرائب والرسوم، مما يجعل هذا النمو "نمواً ورقياً" لا وجود له في جيوب المواطنين، الذين باتوا يحاصرهم الغلاء والديون من كل جانب.

 

وهم التنمية في ظل "حكومة الجباية": نمو بالاستهلاك لا بالإنتاج

 

تحت هذا العنوان العريض لفشل السياسات الاقتصادية، يرى مراقبون أن الحكومة الحالية تمارس نوعاً من الخداع البصري الاقتصادي. فالحديث عن نمو 5% يبدو منفصلاً تماماً عن الواقع الهيكلي للاقتصاد الذي يعتمد بشكل مفرط على الاستهلاك والاستيراد بدلاً من التصنيع والتشغيل.

 

وفي هذا السياق، يفكك الخبير الاقتصادي هاني توفيق أسطورة هذا النمو، مؤكداً أنه نتاج لزيادة "الاستهلاك والاقتراض" وليس نتيجة لاستثمار حقيقي يخلق فرص عمل مستدامة. ويشير توفيق إلى نقطة بالغة الخطورة، وهي ارتفاع القروض الاستهلاكية بنحو 57% خلال الأشهر الأخيرة. هذا الارتفاع الجنوني يعني أن المواطنين يضطرون للاستدانة لتلبية احتياجاتهم الأساسية وليس للرفاهية، مما يخلق فقاعة استهلاكية قد تنفجر في أي لحظة، مؤكداً أن هذا المسار لا يؤدي بأي حال إلى تحسين مستدام في الدخول أو التشغيل، بل يورط المجتمع في ديون لا طاقة له بها.

 

سياسات الإفقار الممنهج: المواطن ضحية التلاعب بالمؤشرات

 

لم تعد الأرقام الرسمية تقنع أحداً في الشارع المصري، حيث يواجه المواطن يومياً واقعاً مغايراً تماماً لما يُقال في النشرات الحكومية. السياسات المتبعة لا تكتفي بعدم تحسين المعيشة، بل تعمل على تآكل الطبقة المتوسطة ودفعها نحو حافة الفقر من خلال التركيز على مؤشرات كلية صماء وتجاهل مؤشرات التنمية البشرية الحقيقية.

 

وهنا يصف الخبير المصرفي رمزي الجرم التركيز الحكومي على معدل النمو وحده بأنه إجراء "مضلل" للرأي العام. ويوضح الجرم أن العبرة ليست بنسبة النمو الإجمالية، بل بنصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، والذي لم يشهد أي تحسن ملموس. ويستدل الجرم على ذلك بمرتبة مصر المتأخرة في مؤشر التنمية البشرية العالمي، مما يفضح زيف الادعاءات بتحسن الأوضاع. فالنمو الذي لا يصحبه تحسن في التعليم والصحة ومستوى الدخل الحقيقي هو نمو يصب في مصلحة فئة ضيقة من المنتفعين ورجال الأعمال المقربين من السلطة، بينما يظل المواطن العادي خارج حسابات التنمية تماماً.

 

فخ الديون القاتل: رهن مستقبل الأجيال القادمة لسد عجز الموازنة

 

لعل أخطر ما في المشهد الاقتصادي الحالي هو الاعتماد المفرط على الاستدانة لتمويل مشروعات تفتقر للجدوى الاقتصادية المباشرة، مما وضع البلاد أمام مأزق تاريخي يهدد سيادتها الاقتصادية. الحكومة الحالية توسعت في الاقتراض الخارجي والداخلي بشكل غير مسبوق، لدرجة أن سداد الديون بات يلتهم ثمار أي نمو محتمل.

 

وفي تحذير شديد اللهجة، ينبه وزير المالية الأسبق سمير رضوان من خطورة تصاعد الدين العام، موضحاً أن الدين الخارجي تجاوز حاجز 161 مليار دولار. الكارثة الحقيقية، بحسب رضوان، تكمن في أن خدمة الدين (الفوائد والأقساط) تلتهم ما يصل إلى 60% من إيرادات الموازنة العامة للدولة. هذا يعني ببساطة أن الدولة تعمل كمحصل للضرائب فقط لتدفعها للدائنين، ولا يتبقى من الموازنة إلا الفتات للإنفاق على الصحة والتعليم والخدمات العامة، مما ينعكس في النهاية وبالاً على المواطنين في صورة تردي الخدمات وزيادة الرسوم.

 

ومن جانبه، يضيف الدكتور جودة عبد الخالق، وزير التضامن الأسبق والمفكر الاقتصادي، رأياً رابعاً يعزز هذا الطرح، حيث يرى أن استمرار السياسات الحالية يعكس خللاً بنيوياً في نموذج التنمية المتبع. ويؤكد عبد الخالق في تصريحات صحفية سابقة تتماشى مع هذا السياق، أن النمو الذي لا يقترن بالعدالة الاجتماعية وإعادة التوزيع العادل للثروة هو نمو "أعرج"، مشدداً على أن الحكومة الحالية تخلت عن دورها الاجتماعي وتركت المواطن فريسة لآليات سوق منفلتة واحتكارات، مما جعل ثمار النمو المزعوم تذهب للأغنياء فقط، بينما يدفع الفقراء فاتورة الإصلاح الاقتصادي المزعوم من لحمهم الحي.

 

ختاماً، يُجمع الخبراء والمراقبون على أن استمرار النظام في التباهي بأرقام النمو الصماء دون معالجة الاختلالات الهيكلية، والانتقال من اقتصاد "الجباية والاستدانة" إلى اقتصاد "الإنتاج والتصنيع"، لن يؤدي إلا إلى مزيد من الاحتقان الاجتماعي وتفاقم الأزمات المعيشية، ولن يشعر المواطن بأي تحسن طالما بقيت السياسات الحالية قائمة على تجميل الصورة بدلاً من علاج الجوهر.