لم تكن نهاية الحرب الدامية التي استمرت عامين كافية لتوقف عداد الموت في قطاع غزة.

 

ففي ليلة السبت/الأحد، استيقظ حي الشيخ رضوان شمالي مدينة غزة على فاجعة جديدة، حينما انهار بشكل جزئي مبنى سكني مكون من ثلاثة طوابق، كان قد تضرر سابقًا بفعل الغارات الإسرائيلية.

 

الحادثة التي أسفرت عن فقدان ثلاثة فلسطينيين وإنقاذ خمسة آخرين، أعادت تسليط الضوء على "الموت البطيء" الذي يواجهه الغزيون، حيث تفتك بهم المباني المتصدعة والظروف الجوية القاسية، في ظل غياب شبه تام لعمليات إعادة الإعمار الحقيقية رغم مرور أكثر من شهرين على سريان وقف إطلاق النار.

 

سبع ساعات من الصراع مع الركام

 

في تفاصيل الليلة الدامية، عاشت طواقم الدفاع المدني سبع ساعات عصيبة في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من تحت أنقاض المبنى المنهار.

 

ووفقًا للمتحدث باسم الدفاع المدني، نجحت الفرق –بأعجوبة– في انتشال خمسة ناجين، بينهم طفل وسيدتان، بعد انهيار السقف الأخير للمبنى فوق رؤوس ساكنيه.

 

ومع ذلك، حالت الظروف الميدانية القاسية، المتمثلة في الظلام الدامس وتراكم الأنقاض غير المستقرة، دون الوصول إلى ثلاثة مفقودين لا يزالون في عداد الأموات تحت الكتل الخرسانية.

 

وتكشف هذه الحادثة عن عمق الأزمة التي يواجهها جهاز الدفاع المدني، الذي يعمل فعليًا "باللحم الحي".

 

فقد أفادت التقارير الميدانية بأن الطواقم اضطرت لاستخدام أدوات بدائية، كالمطارق اليدوية والرافعات البسيطة، لرفع أطنان من الخرسانة، وذلك بعد أن دمرت الحرب المستمرة لعامين غالبية المعدات الثقيلة والمقرات الرسمية للجهاز.

 

ويأتي هذا العجز اللوجستي كنتيجة مباشرة لسياسات الاستهداف المتعمد التي طالت البنية التحتية للطوارئ، واستمرار الحظر الإسرائيلي على إدخال معدات إنقاذ جديدة حتى في مرحلة ما بعد الحرب.

 

تحذيرات أممية: العيش في "توابيت إسمنتية"

 

لا تُعد حادثة الشيخ رضوان حدثًا معزولًا، بل هي جزء من مشهد يومي مرعب حذرت منه المؤسسات الدولية مرارًا. فقد أشار تقرير حديث لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) إلى أن تكلفة إعادة إعمار قطاع غزة تقدر بنحو 70 مليار دولار، في ظل دمار طال قرابة 90% من البنية التحتية المدنية.

 

وأكدت الأمم المتحدة أن آلاف العائلات الفلسطينية تجد نفسها مضطرة للسكن في مبانٍ مصنفة هندسيًا على أنها "آيلة للسقوط"، لعدم توفر أي بديل، حيث يمنع الحصار المشدد إدخال البيوت المتنقلة (الكرفانات) أو مواد البناء الأساسية.

 

وفي هذا السياق، جددت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) تحذيراتها من كارثة إنسانية مع اشتداد المنخفضات الجوية، مشيرة إلى أن الأمطار الغزيرة والرياح تعمل كمعاول هدم إضافية تفتت ما تبقى من تماسك المباني المتصدعة.

 

وأوضحت الأونروا أن الخيارات أمام الغزيين باتت معدومة: إما العيش في العراء والخيام الغارقة، أو الاحتماء بجدران متصدعة قد تنهار في أية لحظة.

 

أصوات ناقدة: خذلان عربي ووصاية أمريكية

 

سياسيًا، يرى مراقبون أن تأخر الإعمار ليس مجرد مسألة لوجستية، بل هو قرار سياسي بامتياز يهدف لكسر الحاضنة الشعبية في غزة.

 

وفي تعليقه على المشهد القاتم، شن الكاتب والمحلل السياسي الفلسطيني ياسر الزعاترة هجومًا لاذعًا على الموقف الأمريكي والعربي، قائلًا في تصريح حديث له: "أسابيع طويلة مرت على اتفاق غزة، لكن البيوت الجاهزة الموعودة لم تدخل.. اضغطوا على الأزعر الأمريكي الذي يبكي كذبًا، بينما يشارك فعليًا في خنق الناجين".

 

ويرى الزعاترة أن استمرار الحصار بمنع مواد الإعمار هو استكمال للحرب بوسائل أخرى، تهدف لتيئيس السكان بعد أن فشلت الآلة العسكرية في كسر إرادتهم.

 

من جانبه، انتقد الكاتب والصحفي نظام المهداوي الصمت الرسمي العربي تجاه ما يجري من "إبادة معمارية" بعد الإبادة البشرية. وكتب المهداوي عبر حساباته الرسمية مشيرًا إلى أن "كل الأنظمة العربية خاضعة تمامًا للوصاية الأمريكية، وتنتظر الضوء الأخضر لإرسال شاحنة إسمنت واحدة"، مستدركًا بأن الفارق الجوهري يكمن في أن "غزة، ورغم الحصار والركام، ترفض الخضوع وتقاوم الموت وحيدة".

 

تختزل هذه الحادثة في الشيخ رضوان مأساة 71 ألف قتيل و171 ألف جريح، وتؤكد أن وقف إطلاق النار لم يضع حدًا للمعاناة، بل دشن مرحلة جديدة من الصراع: صراع البقاء وسط الركام، في انتظار إعمار قد يستغرق عقودًا، أو شتاءً قد لا يرحم أحدًا.