وائل قنديل
كاتب صحافي مصري
بات في حكم المعلوم بالضرورة من الواقع السياسي والاجتماعي في الدول التي عرفت انتفاضات وثورات شعبية في العقد الماضي، أن لوثة موسمية تصيب قتلة هذه الثورات وأعداءها، تجعلهم ينحدرون بالخطاب السياسي والإعلامي، وبالإجراءات العملية كذلك، إلى مستوياتٍ من الهستيريا في استهداف أيّ ملمح من ملامح هذه الثورات. وبما أننا على أعتاب النصف الثاني من شهر ديسمبر، الذي يسبق "جانفي التونسي" و"يناير المصري"، فإن اللوثة الموسمية على أشدها هذه الأيام، سواء في الخطاب أو في الإجراءات، غير أنها هذه المرّة تصل إلى مساحاتٍ من الهراء تكاد تقترب من الجنون، وكأن ثمّة قدرة على الحراك، أو حتى رغبة فيه، لا تزال هناك في أوساط الجماهير، فيما أن الواقع ينطق بأن الشعوب التي ثارت قد تلقّت من الضربات الأمنية وعمليات السحق الاقتصادية والاجتماعية على مدى أكثر من عشر سنوات مضت ما جعلها غير قادرة على الحركة، أو حتى التفكير في تكرار المحاولة التي كانت قاب قوسين أو أدنى من اكتمال النجاح.
قبل أشهر قليلة، تحدّثت الصحيفتان الفرنسيتان الأشهر، لوفيغارو ولوموند، عن الجنون المتصاعد في أروقة سلطة الفرد في تونس، فاستخدمت "لوفيغارو" تعبير "الجنون الاستبدادي" للرئيس التونسي قيس سعيّد، في تقرير لها عن الوضع القاتم للحريات وحقوق الإنسان في البلاد، وذلك في أعقاب موجة من الاعتقالات والأحكام القضائية القاسية التي استهدفت شخصيات معارضة بارزة في قضية "التآمر على أمن الدولة" يوم 19 إبريل الماضي (2025)، وشملت عشرات المعارضين من صحافيين ومحامين ونشطاء بسنوات سجن طويلة (تراوحت بين 13 و66 سنة) بتهم خطيرة، يعتبرها المنتقدون ذات دوافع سياسية وتهدف إلى تصفية المعارضة.
وفي الموضوع نفسه، جاءت افتتاحية "لوموند" بعنوان "تونس في عصر الجنون القضائي"، مؤكّدةً أن الحكم في تونس على نحو 40 معارضًا بأحكام قاسية جدًّا، على أساس اتهامات خيالية، يشكّل إهانةً لسمعة تونس، التي جُرّت قسرًا إلى استبداد لا حدود له بقيادة الرئيس سعيّد.
ومع اقتراب 17 ديسمبر، يوم اندلاع شرارة ثورة الياسمين التونسية في العام 2010، قطع جنون الاستبداد أشواطًا أبعد في اتجاهاتٍ تبدو متباينةً، غير أنها في الحقيقة تأتي في مسار واحد، هو هستيريا الفزع من كلّ ما يذكّر صاحب القبضة الحديدية على البلاد بأن غضبًا شعبيًا وحراكًا جماهيريًا تطوّرا إلى ثورة قد مرّ من هنا. فاعتُقل المعارض البارز أحمد نجيب الشابي (81 عاما)، على إثر حكم جنوني بسجنه 12 عامًا بتهمة التآمر على أمن الدولة، وقبل يومين جاء الحكم بالسجن 12 عامًا على عبير موسى، التي كانت تجسّد مشروع الثورة المضادّة قبل أن تؤول السلطة إلى قيس سعيّد، وقبل أن يستحوذ هو شخصيًا فيما بعد على توكيل الثورة المضادّة، ويعلن حربًا بلا هوادة على الثورة الشعبية التي أوصلته إلى السلطة.
منذ سنوات والبحث مستمرّ عن تفسير لظاهرة قيس سعيّد، وكما قلت سابقًا لا يزال الأمر محيّرًا تمامًا لكل العارفين بدقائق علم الكيمياء السياسية وخبراء معادلات ولوغاريتمات علم الجبر الرئاسي، إذ من الصعب تصوّر تحوّل الشخص من أيقونة وابن بارّ لـ"ثورات الربيع"، إلى مقاتل شرس في معسكر الدكتاتورية والحكم الفردي.
كيف دخل هذا الشخص عالم السلطة مرتديًا وجهًا نضاليًا منحوتًا بعناية، ثم حين استقرّ على عرشه، ظهر مرتديًا زيًّا دكتاتوريًا كأنه التقطه للتو من متحف مقتنيات زين العابدين بن علي؟
من تونس إلى القاهرة، تندلع مجدّدًا لوثة الشتاء السياسية والإعلامية، استباقًا لشهر يناير الرجيم عند السلطة ومراياها الإعلامية، فتسمع عن أحكام بالإعدام والسجن المؤبد في قضايا لم يعد يتذكّرها أحد، بل قد يكون المحكوم عليهم قد غادروا الحياة، وتنشط ماكينة الاعتقالات والاستدعاءات لكتّاب وسياسيين للمثول أمام جهات التحقيق، أحدثهم الكاتب الصحافي والباحث عمار علي حسن، في سياق متّصل من استهداف كل أطياف المعارضة على نحو يصل إلى ما بعد الهستيريا بتصنيف كل صوت معارض على أنه منضمّ إلى "جماعة إرهابية" أو مشارك لها في أهدافها.
يتزامن ذلك مع جنون إعلامي انتقل من مرحلة أن جماعة الإخوان المسلمين صناعة إسرائيلية ومرشدها بنيامين نتنياهو، إلى مرحلة اتهامها بالتحالف مع إثيوبيا في مشروع سدّ النهضة، والضلوع في حرب المياه على مصر.
هذا الجنون ليس له ما يبرره في الواقع، بالنظر إلى أن كل الشواهد تؤكّد أن كل منابع الغضب القادر على الحراك قد جفّت، فما الذي يدفع هؤلاء إلى التصرّف بعقلية الخائف من اللاشيء ومن اللا أحد، سوى أنها لوثة الشتاء الموسمية مع اقتراب ذكرى "الربيع" الذي قتلوه ألف مرّة!

