بينما تسوّق حكومة الانقلاب خطابًا دعائيًا عن “تمكين الشباب” و“الجمهورية الجديدة”، يقدّم مؤشر تنمية الشباب العالمي (YDI) صورة أكثر قسوة: مصر تقف في منطقة رمادية إقليميًا، وتعيش مفارقة فاضحة بين صعود لافت في الصحة وبين انهيار شبه كامل في المشاركة السياسية والمدنية، وتراجع مقلق في التوظيف والفرص. الأخطر أن هذه النتائج لا تبدو “صدفة إحصائية”، بل انعكاسًا مباشرًا لنموذج حكم يغلق المجال العام، ويحوّل الشباب إلى جمهور مطلوب منه التصفيق لا المشاركة، ثم يتساءل لماذا يهاجرون أو ينسحبون أو يغرقون في اقتصاد هش.

 

إقليميًا، تُظهر بيانات التقرير أن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا سجّل أدنى تحسن عالمي خلال 2010−20222010−2022 بزيادة متواضعة 1.38%1.38% فقط. ومصر بدرجة 0.7330.733 جاءت أقل قليلًا من المتوسط الإقليمي 0.7490.749، بينما تُحلّق دول خليجية مثل الإمارات والبحرين وعُمان في فئة “مرتفع جدًا”. ليست المشكلة أن الخليج أفضل “بالطبيعة”، بل أن نموذج الحكم في مصر يستهلك طاقة الشباب في إدارة البقاء اليومي، ويُقصيهم من السياسة والاقتصاد الحقيقي، ثم يلمّع إنجازًا واحدًا ليغطي به نزيف المجالات الأخرى.

 

أولًا: إنجاز الصحة ليس براءة.. بل ورقة تين سياسية

 

يسجل التقرير مفاجأة لافتة: مصر في المركز العالمي الثامن في الصحة والرفاهية بدرجة 0.9620.962. ستتعامل الحكومة مع هذا الرقم كأنه شهادة جودة شاملة، لكنه عمليًا “استثناء” لا ينقذ الصورة. لأن الصحة هنا تُقاس بمؤشرات محددة (مثل بعض معدلات الوفيات وإيذاء النفس وبعض الأمراض)، بينما يغفل المؤشر قضايا ضاغطة في السياق المصري كالتقزم وسوء التغذية والسمنة والأنيميا المنتشرة، خصوصًا بين النساء في سن الإنجاب.

 

يرى د. عمرو خفاجي، خبير سياسات الصحة العامة أن “القفزة في بعض مؤشرات الصحة لا تعني عدالة صحية ولا جودة تغذية. الدولة قد تنجح في حملات محددة، لكنها تفشل في بناء منظومة تمنع المرض من جذوره: فقر غذائي، تضخم أسعار البروتين، وأنيميا مزمنة، ثم تتحدث عن ‘نجاح’ لأنها حسّنت رقمًا في جدول”.

 

وبينما يتباهى المسؤولون، يظل السؤال السياسي قائمًا: لماذا تُستخدم الصحة كقناع لتسويق الاستقرار، بدل أن تكون مدخلًا لكرامة اجتماعية واقتصاد يخلق حياة طبيعية للشباب؟ إن “النتيجة شبه المثالية” في الصحة لا تمنع حقيقة أن الشباب يُحاصرون في سوق عمل مختنق ومجال عام مغلق.

 

ثانيًا: التوظيف والفرص.. فشل اقتصادي يطارد جيلًا كاملًا

 

في مجال التوظيف والفرص (وزنه 22%22% من المؤشر)، جاءت مصر في المرتبة 136136 عالميًا بدرجة 0.6520.652، متأخرة عن مسار التحسن العالمي في هذا المجال. هذا ليس رقمًا عابرًا؛ إنه وصف مكثف لفكرة واحدة: حكومة الانقلاب لم تبنِ اقتصادًا يفتح أبواب الاستقلال المالي للشباب، بل رسّخت نموذجًا يرفع تكلفة الحياة ويقلّص فرص العمل الجاد ويحوّل قطاعات واسعة إلى هشاشة دائمة.

 

تقول د. منى فؤاد، أستاذة اقتصاد العمل إن “أزمة الشباب في مصر ليست بطالة فقط، بل ‘انحباس انتقال’ من التعليم إلى العمل: مهارات لا تطابق السوق، تضخم يلتهم الأجور، وتوسع في وظائف منخفضة الإنتاجية. النتيجة أن الشاب قد يعمل ولا ينجو اقتصاديًا، أو يخرج من سوق العمل تمامًا ضمن فئة NEETNEET”.

 

وتزداد المفارقة فجاجة حين يُلقى اللوم على الشباب أنفسهم: مرة بحجة “قلة الخبرة”، ومرة بحجة “عدم الرغبة في العمل”، بينما المؤشرات تقول إن المشكلة هي بنية اقتصاد وسياسات تشغيل وتدريب وتمويل لا تمنحهم مسارًا واضحًا للحياة.

 

ثالثًا: المركز 181 في المشاركة.. دليل على دولة تخاف شبابها

 

الفضيحة الأكبر ليست في الاقتصاد وحده، بل في السياسة: مصر تحتل المرتبة 181181 من أصل 183183 في المشاركة السياسية والمدنية بدرجة 0.1850.185. هذا يعني عمليًا أن الدولة تُغلق القنوات الطبيعية للتعبير والمساءلة والعمل العام، ثم تستبدلها بمشاركة شكلية ومنصات مُدارة بعناية، تُقاس فيها “الطاعة” أكثر مما تُقاس المشاركة.

 

يعلّق أ. ياسر عبد الحميد، باحث في العلوم السياسية بأن “ترتيبًا كهذا لا يأتي من فراغ. المشاركة تتطلب حرية تنظيم، إعلامًا مستقلًا، نقابات وطلابًا قادرين على الفعل، ومسارًا آمنًا للتطوع والعمل الأهلي. حين تُجرَّم السياسة وتُخنق المبادرة، يصبح الطبيعي أن يهبط المؤشر إلى القاع”.

 

الأخطر أن هذا المجال، رغم أن وزنه 10%10% فقط في حساب المؤشر، يكشف “جوهر الأزمة”: دولة ترى الشباب كتحدٍ أمني لا كقوة اجتماعية. ومن دون فتح المجال العام وضمان حق التنظيم والتعبير وربط التعليم بسوق عمل واقعي، ستظل أرقام الصحة مجرد ديكور فوق انسداد هيكلي.