في حلقة جديدة من مسلسل التطهير العرقي الصامت الذي تمارسه آلة الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية، استفاقت بلدة ترمسعيا، شمال شرق رام الله، على هدير الجرافات وهي تفتك بأراضيها الزراعية وتقتلع تاريخًا مغروسًا في الأرض منذ عقود. المشهد في السهل الشرقي للبلدة لا يمكن وصفه إلا بـ"المجزرة البيئية والزراعية"، حيث تواصل الآليات الإسرائيلية، لليوم الثالث على التوالي، تجريف مساحات شاسعة واجتثاث مئات الأشجار المثمرة، في خطوة تمهيدية واضحة لسرقة الأرض وضمها لغول الاستيطان الذي لا يشبع.
ما يجري في ترمسعيا ليس حدثًا معزولًا، بل هو نموذج مصغر لسياسة ممنهجة تنفذها حكومة المستوطنين المتطرفة، مستغلة انشغال العالم بحرب الإبادة في غزة لتفرض وقائع جديدة على الأرض في الضفة، عبر تحويل المناطق الزراعية الخصبة إلى مناطق عسكرية مغلقة، ومن ثم إلى بؤر استيطانية، سالبة الفلسطينيين مصدر رزقهم وارتباطهم الوجودي بأرضهم.
4 آلاف شجرة تحت "مقصلة" التجريف
حجم الكارثة الزراعية التي كشف عنها رئيس بلدية ترمسعيا، لافي الشلبي، ينذر بخطر محدق. فالتقديرات الأولية تشير إلى أن نحو 4 آلاف شجرة، معظمها من الزيتون الرومي المعمر، باتت مهددة بالاقتلاع الكامل إذا استمرت وتيرة التجريف الحالية. الجرافات لا تكتفي باقتلاع الشجر، بل تقوم بحراثة الأرض فورًا، في إشارة لا تخطئها العين: هذه الأرض لم تعد لكم.
إعلان المنطقة "عسكرية مغلقة" هو الذريعة التقليدية التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي لمنع المزارعين من الوصول لأراضيهم والدفاع عنها. هذا الحصار المفروض على السهل الشرقي يحرم مئات العائلات من مصدر دخلها الأساسي، ويحول موسم الزراعة إلى موسم للنكبات والخسائر الفادحة.
سياسة "الأرض المحروقة".. تمهيد للاستيطان
يؤكد المراقبون والمسؤولون الفلسطينيون أن ما يحدث في ترمسعيا يندرج ضمن مخطط استيطاني أوسع يهدف لعزل البلدات الفلسطينية ومحاصرتها في "كانتونات" ضيقة، بينما تتمدد المستوطنات على حساب الأراضي الزراعية والمناطق المصنفة (ج). عمليات التجريف تليها عادةً إقامة بنى تحتية أو طرق التفافية تخدم المستوطنين، أو حتى إنشاء بؤر رعوية استيطانية تبتلع آلاف الدونمات.
التقارير الرسمية الفلسطينية رصدت تصاعدًا جنونيًا في وتيرة الاستيلاء على الأراضي خلال الأشهر الأخيرة، بالتوازي مع حملة مسعورة لهدم المنشآت وتوجيه إخطارات بوقف البناء. الهدف الإسرائيلي واضح: جعل حياة الفلسطيني في هذه المناطق مستحيلة، ودفعه للهجرة القسرية الصامتة نحو مراكز المدن المكتظة.
الضفة وغزة.. وجهان لعدوان واحد
لا يمكن فصل ما يجري في ترمسعيا عما يحدث في غزة. فالحرب واحدة، والهدف واحد، وإن اختلفت الأدوات. بينما تُباد غزة بالقنابل والصواريخ، تُباد الضفة الغربية بالجرافات وقوانين المصادرة وعنف المستوطنين. منذ أكتوبر 2023، أطلق الاحتلال العنان لقطعان المستوطنين وجيشه ليعيثوا فسادًا في الضفة، مستغلين حالة الحرب لتنفيذ مخططات الضم الفعلي التي كانت مؤجلة.
الاعتداءات اليومية، الاعتقالات الواسعة، وتجريف الأراضي، كلها حلقات في سلسلة تهدف لكسر الإرادة الفلسطينية، ومنع قيام أي كيان فلسطيني متواصل جغرافيًا وقابل للحياة.
صرخة ترمسعيا.. هل من مجيب؟
بلدة ترمسعيا، التي عانت سابقًا من هجمات وحشية للمستوطنين أحرقوا فيها المنازل والسيارات، تواجه اليوم خطر فقدان هويتها الزراعية. المزارعون الذين يقفون عاجزين أمام الحواجز العسكرية ينظرون بحسرة إلى أشجارهم التي روتها دماء أجدادهم وهي تُقتلع من جذورها.
هذه الجريمة تستدعي تحركًا دوليًا عاجلاً يتجاوز بيانات الإدانة الخجولة. المطلوب هو ضغط حقيقي لوقف سرطان الاستيطان الذي يلتهم ما تبقى من حل الدولتين، وتوفير حماية دولية للمزارعين الفلسطينيين وأراضيهم قبل أن تتحول الضفة الغربية بالكامل إلى "أرخبيل" من المستوطنات المعزولة، وتصبح شجرة الزيتون ذكرى في كتب التاريخ.

