وائل قنديل

كاتب صحافي مصري

 

لم يحدّد الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية، عمرو موسى، مقصده بالتحريم، وهو يعلن الآن أن "التطبيع لم يكن يومًا من المحرّمات"، كما نقلت صحفٌ ومواقع مصرية تصريحاته لموقع مغربي. هل قصد وزير الخارجية في زمن تطبيع حسني مبارك أن التطبيع لم يكن من المحرّمات دينيًّا أم سياسيًّا؟. ما نعلمه أن شهرة عمرو موسى التي ترجمها مغنّي الأفراح الشعبية الراحل شعبان عبد الرحيم في مونولوج يقول"بكره إسرائيل وبحب عمرو موسى" بنيت على ما راج في الأوساط الإعلامية والسياسية في التسعينيات بأن الرجل يغرّد وحيدًا ضد التطبيع في نظام مبارك" (الموصوف صهيونيًّا بأنه الكنز الاستراتيجي لإسرائيل والمنطقة)، في وقت كان فيه الكيان الصهيوني يبدو أقل وقاحةً وفظاظةً واستعلاءً أمام النظم العربية المطلوبة لغرف التطبيع بأي ثمن.

 

أما وأننا في لحظة يصفع فيها الصهيوني وجوه العرب كل يوم، ويعلن أنه السيد والأصل في الإقليم، بينما "الأغيار" ينبغي أن يركعوا أمام جبروت قوته، المستمدّة من سطوة القوة الأميركية المتغرطسة على الحكومات العربية، فإن التطبيع الآن لا يعدّ فقط من المحرّمات، بل هو الحرام بعينه، دينيًّا وسياسيًّا وأخلاقيًّا، بالنظر إلى ما يعلنه الاحتلال، من حين إلى آخر، أن حدوده ليست فلسطين المحتلة فقط، بل تشمل أراضٍ في أربع دول عربية أخرى في الجوار، هذا إن لم يكن رقم سبعين ألف شهيد فلسطيني في غزّة وحدها خلال عامين كافيًا، لكي يرى عمرو موسى من المحرّمات الآن وأمس وغدًا.

 

ادّعاء عمرو موسى إن التطبيع لم يكن يومًا من المحرمات كاذب، حتى وإن حاول تجميل الجملة القبيحة بمحسّنات من نوعية "لكن التطبيع يجب أن يقترن بقيام دولة فلسطينية وعودة الأراضي المحتلة، أما السلام المجاني من دون تنازلات من إسرائيل أمر غير وارد". فضلًا عن يضع هذا التطبيع مرادفًا للسلام، فيما تخبرنا الخمسون عامًا التي انقضت من مسيرة التطبيع المصري الإسرائيلي بأن التطبيع لم يجلب السلام يومًا، بل جاء بمزيد من الإجرام الصهيوني المحاط بيقين لدي مرتكبيه بأن عرب التطبيع جزءٌ من ترسانته الإجرامية، ولم ولن يكونوا رادعًا لأحلامه وأوهامه. لكن متى كان التطبيع ليس من المحرّمات، حتى في أكثر اللحظات دفئًا بين نظام مبارك والعدو الصهيوني؟

 

حسنًا، فلننشط ذاكرة السيد عمرو موسى بالرأي الديني والشعبي والسياسي في التطبيع أيام أنور السادات، ثم مبارك، ولنقرأ معه في موقف الأزهر الشريف والكنيسة المصرية من دعوات التطبيع. فتاوى الأزهر منذ ستينيات القرن الماضي حرّمت التطبيع، من الشيخ حسنين مخلوف مرورًا بالشيخ عبد الحليم محمود الذي رفض مرافقة السادات في زيارته إلى القدس المحتلة 1977، ثم الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، الذي رفض الانحناء أمام عواصف "أوسلو"، معلنًا أن من يذهب إلى القدس من المسلمين آثم آثم.. والأوْلى بالمسلمين أن ينأوا عن التوجّه إلى القدس، حتى تتطهر من دنس المغتصبين اليهود، وتعود إلى أهلها مطمئنة يرتفع فيها ذكر الله والنداء إلى الصلوات، وعلى كل مسلم أن يعمل بكل جهده من أجل تحرير القدس ومسجدها الأسير.

 

شدّدت فتاوى الأزهر القديمة على أن الصلح مع "إسرائيل" لا يجوز شرعًا، لما فيه من إقرار بالغصب واعتراف وتمكين للغاصب، وأن على المسلمين جميعًا، باختلاف ألسنتهم وألوانهم وأجناسهم، التعاون لرد هذه البلاد إلى أهلها، وأن يبذلوا كل ما يستطيعون، حتى تطهر البلاد من آثار هؤلاء الطغاة المعتدين.وأن يعينوا المجاهدين بالسلاح وسائر القوى على الجهاد في هذا السبيل.

 

وفي الوضع الراهن، لم نسمع من شيخ الأزهر أحمد الطيب ما يحلل التطبيع أو يسوّغه، وأن الرجل بقي عصيًا على إقرار مشروع "السلام الإبراهيمي" الذي تريد واشنطن فرضه بالقوة. البطريرك الراحل، الأنبا شنودة، اتخذ مواقف شديدة الصلابة في وجه دعوات التطبيع المغلف بالحجّ إلى المقدسات، وصمد البطريرك في وجه أعاصير الابتزاز باسم الدين، لكي يمنح موافقته على حجّ المسيحيين إلى كنيسة القيامة. وتبقى مقولته الخالدة "لن أدخل القدس إلا بتأشيرة فلسطينية على جواز سفري، ومع صديقي شيخ الأزهر وإخوتي العرب، ولن يكون هذا إلا بعد أن يزول الاحتلال عن القدس، ويصبح المسجد الأقصى تحت سيطرة السلطة الفلسطينية".

 

أما عن التحريم السياسي للتطبيع، فلينظر عمرو موسى في أرشيفات التظاهرات والانتفاضات الشعبية منذ زيارة السادات القدس، وإلى توصيات المؤتمرات السياسية على المستويين المصري والعربي ضد التطبيع، وكلها مواقف واضحة وناصعة من دون شبهة "حنجلة" لغوية أو سياسية، مع الوضع في الاعتبار أن ذلك كان في فترات يتسوّل فيها الاحتلال تطبيعًا مع أي دولة عربية، بينما ما يريده اليوم أن تأتيه الدول العربية والإسلامية راكعة، لتحصل على مكان في شرق أوسط نتنياهو وترامب.