في ظل غياب الإرادة السياسية وانشغال النظام بتكريس قبضته الأمنية، تتحول أجساد طفلات مصر إلى ساحة لانتهاكات ممنهجة تحت مسمى "الزواج"، في جريمة مكتملة الأركان ترتكب بمباركة مجتمعية وتواطؤ تشريعي.

 

فقد كشف تحقيق استقصائي حديث نشره موقع "المنصة" للصحفي يوسف عقيل، عن أرقام مرعبة تفضح حجم الكارثة المسكوت عنها، حيث تم توثيق زواج 911 ألف قاصر خلال السنوات العشر الماضية (2014-2024)، بمعدل صادم يصل إلى 227 طفلة يومياً.

 

هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات، بل هي صرخات مكتومة لآلاف الضحايا اللواتي يتم "بيعهن" في سوق النخاسة المقنن، وسط صمت مريب من حكومة الانقلاب التي تكتفي بالشعارات الرنانة بينما تترك 83% من هذه الجرائم تستفحل في الريف المهمش والفقير.

 

ثغرات قانونية وتواطؤ برلماني: تشريع "الاغتصاب المقنن"

 

رغم النصوص القانونية التي تحظر توثيق الزواج قبل سن الـ 18، إلا أن الواقع يكشف عن "مسرحية هزلية" يُشارك فيها الجميع. فالقانون الحالي، الذي يفتقر لأي عقوبات رادعة للأسر، يفتح الباب واسعاً أمام التحايل عبر عقود "التصادق"، التي تُشرعن الجريمة بأثر رجعي.

 

إن هذا الفراغ التشريعي ليس مجرد "ثغرة"، بل هو سياسة ممنهجة لبرلمان "موالاة" متواطئ عرقل مراراً إصدار قانون يجرم زواج القاصرات بشكل صريح، مفضلاً الحفاظ على تحالفاته مع القوى الرجعية والقبلية على حساب مستقبل طفلات مصر.

 

إن غياب الرادع القانوني يحول الدولة من جهة حامية للحقوق إلى "شريك صامت" في جريمة الاتجار بالبشر، خاصة في الحالات التي يتم فيها تزويج طفلات لرجال يكبرونهن بعقود، في صفقات مشبوهة تغيب عنها الإنسانية وتحضر فيها المصالح المادية الضيقة.

 

مآسي الأنساب الضائعة: أطفال بلا هوية وأمهات قاصرات

 

لم يتوقف التحقيق عند الأرقام، بل غاص في عمق المأساة الإنسانية، كاشفاً عن قصص يندى لها الجبين. ففي الشرقية، تحولت طفلة في الـ 13 من عمرها إلى أرملة وأم، لتجد نفسها عاجزة عن تسجيل طفلها باسم أبيه المتوفى، لينتهي بها المطاف بتسجيله باسم "والدها" ليصبح ابنها "أخاها" في نظر القانون!

 

هذه "المآسي المركبة" ليست حالات فردية، بل هي نمط متكرر ينتج أجيالاً من الأطفال مجهولي النسب ومحرومين من الميراث والحقوق، ضحايا لفوضى قانونية وأخلاقية ترعاها دولة لا تكترث بتمزيق النسيج الاجتماعي طالما أن ذلك يحدث بعيداً عن أضواء العاصمة.

 

حالة أخرى لطفلة في الـ 15 أنجبت طفلاً سُجل باسم "جده"، لتكتشف بعد بلوغها السن القانونية استحالة تصحيح النسب، ليظل الطفل "أخاً لأبيه" قانونياً، مما يخلق تعقيدات اجتماعية وميراثية لا حصر لها.

 

هذه القصص ليست سوى غيض من فيض، وتؤكد أن النظام لا يوفر الحماية لأكثر الفئات ضعفاً، بل يتركهم فريسة لتقاليد بالية وفقر مدقع.

 

الريف الضحية: الفقر والجهل وقود الجريمة

 

يشير التحقيق إلى أن 83% من الحالات تتركز في محافظات مثل الشرقية والبحيرة والمنيا، وهي مناطق تعاني من تهميش تنموي متعمد. فالفقر المدقع، وغياب الخدمات التعليمية عن أكثر من 2300 قرية محرومة من المدارس، يخلقان بيئة خصبة لنمو هذه الظاهرة.

 

إن حكومة الانقلاب، التي تنفق المليارات على مشاريع استعراضية في العاصمة والمدن الجديدة، تترك الريف يغرق في الجهل والحرمان، مما يدفع الأسر للتعامل مع بناتها كـ "أعباء" يجب التخلص منها بأسرع وقت.

 

إن استمرار هذه الظاهرة هو دليل دامغ على فشل الدولة في القيام بمسؤولياتها التنموية والتوعوية. فبدلاً من بناء المدارس وتوفير فرص حياة كريمة، تترك الحكومة المجال مفتوحاً لثقافة "الستر" المغلوطة وتجارة الزيجات المبكرة، متجاهلة الآثار المدمرة لذلك على صحة الأمهات الصغيرات ومستقبل أطفالهن.

 

إن الصمت على هذه الجرائم لم يعد مقبولاً، واستمرار الوضع الحالي هو إدانة صريحة لنظام يشارك بصمته وتواطئه في اغتيال براءة الآلاف، ويحول مستقبل الوطن إلى كابوس مظلم، بدلاً من أن يكون بيئة حاضنة للنضج والحياة الكريمة.