يعد الريف المصري ذلك الملاذ الآمن الذي ينتج الغذاء ويكفي أهله. ففي ظل سياسات حكومة الانقلاب التي انحازت بشكل فج للشركات الاستثمارية الكبرى وللمستثمر الأجنبي على حساب الفلاح البسيط، تحولت الزراعة إلى "كابوس" سنوي.

 

لم يعد السؤال "ماذا نزرع؟"، بل "كيف ندفع الإتاوة؟". إيجارات الأراضي تضاعفت بشكل جنوني، ومدخلات الإنتاج اشتعلت أسعارها، والمستفيد الوحيد هم حيتان التصدير وشركات الاستثمار التي ابتلعت الأخضر واليابس، تاركة الفلاح يصارع الديون أو السجن، في مشهد يكرس لعملية "تفريغ" ممنهجة للدلتا من سكانها الأصليين لصالح رأس المال الجشع.

 

جنون الإيجارات: عندما تصبح الأرض "للمن يدفع أكثر"

 

شهدت السنوات القليلة الماضية، وتحديداً منذ 2021، قفزات غير مسبوقة في أسعار إيجارات الأراضي الزراعية، حولت الفلاح من منتج إلى مجرد "مستأجر" مهدد بالطرد.

 

أرقام فلكية: ارتفع إيجار الفدان في الدلتا من 6 آلاف جنيه إلى ما بين 30 و45 ألف جنيه، وفي مناطق زراعة المحاصيل التصديرية (مثل الفراولة) وصل إلى 125 ألف جنيه. هذه الزيادات لم تأتِ من فراغ، بل نتيجة دخول شركات استثمارية كبرى للمنافسة على الأراضي، قادرة على دفع أضعاف ما يدفعه الفلاح، بهدف زراعة محاصيل تصديرية تدر عائداً دولارياً يذهب لجيوبهم، بينما يتحمل الفلاح تضخم الأسعار.

 

إتاوات الأوقاف والري: لم تكتفِ الحكومة بالمشاهدة، بل شاركت في "الجريمة" عبر رفع إيجارات أراضي الأوقاف والري بنسب تجاوزت 77% في عام واحد، لتصل إلى 30 ألف جنيه للفدان، مع تهديد المستأجرين بالطرد الفوري إن لم يدفعوا، في استغلال بشع لكون الدولة هي المالك الأكبر.

 

"الأمن الغذائي" في خطر: التصدير قبل الإطعام

 

تتبنى الحكومة سياسة زراعية كارثية تركز على "الزراعة من أجل الدولار" وليس "الزراعة من أجل الغذاء".

 

الاستحواذ الأجنبي: فتح النظام الباب على مصراعيه لشركات إماراتية وسعودية للاستحواذ على مساحات شاسعة من الأراضي (مثل صفقة مزارع الهاشمية ووادي النطرون) لزراعة محاصيل تصديرية (فراولة، موالح) تستهلك مياهنا وتُصدر خيرنا للخارج، بينما يستورد المصريون قوت يومهم الأساسي بالعملة الصعبة.

 

تجويع الداخل: أدى التوسع في الزراعات التصديرية على حساب المحاصيل الاستراتيجية (كالقمح والذرة) إلى نقص المعروض المحلي وارتفاع جنوني في أسعار الغذاء، مما يهدد الأمن الغذائي لملايين المصريين الذين باتوا عاجزين عن شراء ما يُزرع في أرضهم.

 

أزمة الأسمدة: "السوق السوداء" برعاية رسمية

 

لم يقتصر الحصار على الإيجار، بل امتد لمدخلات الإنتاج التي أصبحت حلماً بعيد المنال.

 

أسعار تحرق المحصول: قفزت أسعار الأسمدة بنسبة 564%، ووصل طن اليوريا في السوق الحر إلى 25 ألف جنيه، بسبب فشل الحكومة في توفير الحصص المدعمة وترك الفلاح فريسة لتجار السوق السوداء الذين هم غالباً وكلاء لنفس شركات الأسمدة التي باعت الحكومة حصصاً منها لمستثمرين أجانب.

 

خسائر محققة: النتيجة الحتمية هي أن تكلفة الزراعة باتت أعلى من العائد، خاصة مع انهيار أسعار التصدير لبعض المحاصيل (مثل الفراولة التي انخفض سعرها 60%)، مما يدفع الفلاحين لهجر الأرض أو بيعها للشركات نفسها، وهو الهدف الخفي لهذه السياسات: "تركيع الفلاح للاستيلاء على أرضه".

 

مخطط "تجريف" الريف

 

إن ما يتعرض له الفلاح المصري ليس مجرد أزمة اقتصادية عابرة، بل هو مخطط مكتمل الأركان لتغيير هوية الريف المصري، وتحويله من مجتمع منتج ومكتفٍ ذاتياً إلى "مزارع كبيرة" تملكها شركات متعددة الجنسيات ويعمل فيها الفلاحون كـ"أجراء" في أرض أجدادهم. حكومة الانقلاب، بسياساتها الجبائية وانحيازها للأجنبي، ترتكب جريمة خيانة عظمى في حق الأمن الغذائي القومي، وتدفع بالبلاد نحو مجاعة حقيقية لن ينجو منها أحد.