في مشهد يختصر عمق الكارثة الإنسانية التي تضرب السودان منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، تتواصل فصول المأساة في ولايات كردفان ودارفور، فيما تتكدس عشرات الآلاف من الأسر في معسكرات نزوح تحوّلت إلى رقعة شديدة البؤس، تخلو من الغذاء والدواء والمأوى، بينما تشتعل جبهات القتال على نحو غير مسبوق، مهددةً بانفجار إقليمي واسع النطاق.
يقدّم هذا التقرير صورة شاملة لتطورات الأوضاع في السودان، عبر شهادات ميدانية وتحليلات عسكرية وحقوقية تلخص حجم الانهيار الذي يطال كل تفاصيل الحياة.
أولاً: معسكرات نزوح تنهار… “طويلة” و“الأبيض” نموذجًا لمعاناة بلا نهاية
600 ألف نازح في “طويلة”… وموارد لا تكفي حتى يومًا واحدًا
تمثل مدينة طويلة أحد أكثر مراكز النزوح ازدحامًا في السودان حالياً، حيث استقبلت أكثر من 600 ألف نازح وفق آخر بيانات الأمم المتحدة.
ورغم وصول شحنات غذائية محدودة، فإن شهادات النازحين تكشف أن أكياس الحبوب الموزعة لا تكفي لاستهلاك يوم واحد لعائلة متوسطة، في وقت تتدفق فيه أعداد جديدة يوميًا من مناطق القتال.
“الأبيض”: مليون نازح يعيشون فوق الرماد
تبدو الصورة أكثر قتامة في مدينة الأبيض التي تضخم فيها المعسكر الموحد ليضم أكثر من مليون نازح. الخيام المهترئة والممزقة لا تصمد أمام حرارة النهار ولا برد الليل، وذلك قبل دخول فصل الشتاء بأيام قليلة.
المراسلون المحليون يؤكدون أن المنظمات الدولية —وفي مقدمتها برنامج الأغذية العالمي— لم تفِ سوى بـ 30% من الاحتياجات الأساسية، بينما يعتمد الباقي على مبادرات أهلية صغيرة لا تتحمل ضغط الأعداد.
صحياً: لا مستشفى واحد قادر على العمل
تؤكد مصادر طبية في “طويلة” أن مشفى واحد فقط يخدم أكثر من 1.5 مليون نازح، في حين تعمل بعض العيادات المتنقلة بطاقة محدودة لا تتناسب مع حجم الإصابات وسوء التغذية، خصوصًا بين الأطفال.
ثانياً: شهادات من الفاشر… نساء هربن من الموت إلى لجوء بلا أمل
في مخيمات اللجوء على الحدود التشادية، تتدفق روايات موجعة لنساء نزحن من الفاشر، المدينة التي شهدت خلال الأسابيع الأخيرة واحدة من أعنف موجات القصف والانتهاكات.
“طلعنا حفيانين”
سيدة مسنة جلست أمام خيمتها المتهالكة تروي رحلتها المروعة: “طلعنا حفيانين.. لا نعل ولا قماش. بس اللبسة البت على جسمنا.”
انتقلت من “طُورة” إلى “أب سكين” ثم “كتم” وصولًا إلى تشاد. الأسرة تشتت، والمصاب لا يزال مجهول المصير.
رصاصة أثناء جلب الماء
شابة سودانية تروي إصابتها أثناء محاولتها جلب الماء وسط القصف، مؤكدة أن الرصاصة اخترقت يدها، قبل أن تنجو عبر “طريق خطير ومكلف” أوصلها إلى تشاد بمساعدة شقيقها.
صور ييل تكشف الفظائع
تقارير دولية —بينها صور حديثة لمختبر الشؤون الإنسانية بجامعة ييل— وثّقت استمرار التخلص الجماعي من الجثث في عدة مواقع بالفاشر، منها المستشفى السعودي وحي الدرجة الأولى.
انهيار اقتصادي وأمني
الأسواق السبعة الرئيسية في المدينة شبه متوقفة بعد سيطرة قوات الدعم السريع، بينما تحذّر حركة تحرير السودان (مجموعة عبد الواحد) من مجاعة تهدد 80% من النازحين.
ثالثاً: معارك كردفان… صراع على خطوط الإمداد يغيّر وجه الحرب
تشهد مناطق شمال وغرب كردفان واحدة من أعنف جولات القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، في معركة وصفها الخبراء بأنها "كسر عظم" للسيطرة على طرق الإمداد الاستراتيجية.
مصادر عسكرية تؤكد أن العمليات الأخيرة —خصوصاً في غرب الأبيض وبارا— أدت إلى انهيار واسع في صفوف الدعم السريع بعد ضرب خطوط الإمداد بالطيران المسيّر والمقاتلات الحربية.
في المقابل، أعلنت قوات الدعم السريع المدعومة من الاحتلال الاماراتي —عبر بيان نُشر على تليجرام— تحقيق “انتصارات” في جبل أبو سنون وجبل عيسى، مؤكدة قرب “تحرير بابنوسة”.
تحليل الخبراء: المعركة على أبواب مرحلة حاسمة
الخبيران العسكريان جمال الشهيد وأمين مجذوب يؤكدان أن: الجيش يهدف إلى تفكيك بنية الدعم السريع عبر ضرب خطوط الإمداد.
الدعم السريع يسعى لربط دارفور بكردفان لتشكيل ما يسمى “الإقليم الواحد”.
المعارك تحولت من المدن إلى مناطق صحراوية مفتوحة، ما يُرجّح كفة الجيش بسبب تفوقه الجوي.
العقوبات الأوروبية على عبد الرحيم دقلو —الرجل الثاني في الدعم السريع— خلقت انقسامات داخل صفوف القوات، بحسب محللين.
رابعاً: البرهان يرفض الورقة الأميركية… “وساطة غير محايدة”
في خطاب شديد اللهجة، رفض رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان الورقة التي قدمها مبعوث البيت الأبيض مسعد بولس، واعتبرها “أسوأ ورقة تُطرح على السودان”.
أبرز اعتراضات البرهان:
- الورقة “تلغي وجود القوات المسلحة”.
- تبقي الدعم السريع في مناطقه.
- تتهم الحكومة بمنع القوافل الإنسانية واستخدام أسلحة كيميائية.
- وصف اللجنة الرباعية بأنها “غير محايدة”.
خارطة الطريق السودانية
البرهان شدد على تمسكه بخارطة الطريق التي أعلنتها الحكومة، والتي تتضمن:
- حوار وطني شامل.
- تشكيل حكومة كفاءات.
- إخلاء المدن من السلاح.
- وقف إطلاق النار وفق انسحاب قوات الدعم السريع من المناطق التي دخلتها.
خامساً: الوضع الإنساني.. نداءات دولية وأرقام مرعبة
أعلنت منظمة الهجرة الدولية أن أعمال العنف في شمال كردفان أدت إلى تهجير أكثر من 40 ألف شخص خلال الفترة ما بين 26 أكتوبر و19 نوفمبر.
وبحسب مفوضية العون الإنساني، استقبلت الولاية أكثر من 16 ألف نازح جديد خلال أسابيع قليلة، ليرتفع العدد إلى أكثر من مليوني شخص.
“الأطفال بلا مدارس”
ممثل اليونيسيف في السودان يؤكد: 80% من الأطفال النازحين لا يذهبون إلى المدارس.
المنظمة تمتلك فقط 25% من الموارد المطلوبة.
آلاف الأطفال شهدوا جرائم قتل بحق عائلاتهم.

