في سابقة خطيرة تكشف عن مدى تغلغل القبضة الأمنية والعسكرية داخل المؤسسات الأكاديمية المصرية، وتحول الجامعات من منارات للعلم إلى "إقطاعيات خاصة" يديرها الجنرالات بعقلية الثكنات، انفجر بركان الغضب داخل جامعة حلوان.

لم يعد الحديث عن الفساد همسًا في الغرف المغلقة، بل تحول إلى صرخة مدوية عبر منشورات ورقية غطت جدران ومباني الجامعة، تفضح ما وصفه الموظفون بـ"مافيا الفساد" التي يقودها رئيس الجامعة الدكتور السيد قنديل، وذراعه اليمنى "الجنرال" محمد عبد الحفيظ أبو شقة، المعين بقرارات "فوق قانونية" أمينًا عامًا للجامعة.

 

هذه الواقعة ليست مجرد حادثة إدارية عابرة، بل هي تجسيد حي لسياسات "حكومة الانقلاب" التي دأبت على زرع القيادات العسكرية في مفاصل الدولة المدنية، لتتحول المؤسسات إلى ساحات للنهب الممنهج وتصفية الحسابات.

 

إمبراطورية "الجنرال".. نهب تحت الحماية الرسمية

 

تكشف الوثائق والاستغاثات التي تداولها "العاملون المقهورون" – كما أطلقوا على أنفسهم – عن وقائع فساد مالي تزكم الأنوف، بطلها اللواء محمد عبد الحفيظ أبو شقة، الذي تم استقدامه من هيئة الرقابة الإدارية ليدير الجامعة بعقلية "الأمر المباشر".

وتشير البيانات إلى أن الجنرال يتقاضى راتبًا شهريًا "صافيًا" قدره 50 ألف جنيه، معفيًا تمامًا من الضرائب، ما يرفع قيمته الفعلية إلى ما يوازي 75 ألف جنيه، في تحدٍ صارخ للحد الأقصى للأجور الذي ادعت حكومة الانقلاب تطبيقه في 2014 لذر الرماد في العيون.

 

لم يتوقف النزيف عند الراتب؛ بل امتد إلى "مكافآت الوافدين" التي استولى عليها الجنرال دون وجه حق، حيث تجاوزت قيمتها المليون ومئتي ألف جنيه في أقل من عام، وكأن أموال الطلاب والجامعة غنيمة مستباحة.

الأخطر من ذلك هو ما كشفه البيان عن "بيزنس البوفيهات"؛ حيث تحولت كافتيريات الجامعة وقاعات العروض ودار الضيافة إلى مشاريع خاصة تدار لحساب الجنرال ورئيس الجامعة، مستغلين موظفين حكوميين في إدارتها بدلًا من طرحها في مزايدات علنية وفقًا للقانون، في التفاف واضح للهروب من رقابة الجهاز المركزي للمحاسبات، الذي يبدو أنه يقف عاجزًا – أو متواطئًا – أمام سطوة الرتب العسكرية.

 

التدليس القانوني.. تفصيل المناصب على مقاس "العسكر"

 

لم يكن تعيين اللواء أبو شقة مجرد خيار إداري، بل عملية "هندسة قانونية" فاسدة قادها رئيس الجامعة.

ففي مسرحية هزلية، تم الإعلان عن وظيفة أمين عام الجامعة بشروط لا تنطبق إلا على "الجنرال المختار"، متجاهلين شرط الخبرة الجامعية (10 سنوات) الذي ينص عليه قانون تنظيم الجامعات.

وبدلاً من الالتزام بالقانون، لجأت الإدارة إلى "التلفيق"، فصدر القرار رقم 172 في مايو 2023 بانتدابه، تلاه قرارات تجديد متتالية (مثل القرار 1888 في مايو 2025) لفرض سياسة الأمر الواقع.

 

وعندما اصطدمت طموحات الجنرال ببعض العوائق القانونية التي أثارها وزير التعليم العالي بحكومة الانقلاب، تدخل "مجلس الوزراء" لشرعنة الفساد، موصيًا بالاستعانة به كـ"خبير وطني".

لكن الحقيقة على الأرض كانت مختلفة؛ فقد استمر أبو شقة يمارس صلاحيات الأمين العام كاملة، ويتقاضى الملايين عبر "بوابات خلفية" للمكافآت، للتحايل على قرار وقف راتبه الرسمي، في مشهد يعكس كيف تدار الدولة بمنطق "التحايل" لا القانون.

 

مذبحة الكفاءات.. التنكيل سلاح الإدارة الفاشلة

 

في الوقت الذي يغرق فيه قادة الجامعة في بحر المكافآت، يواجه الموظفون حملة قمع غير مسبوقة. فقد كشفت المنشورات عن سياسة "الأرض المحروقة" التي يتبعها الجنرال ضد الكفاءات الإدارية؛ حيث أصدر الأوامر التنفيذية رقم 77 و78 في أغسطس 2025، والتي تضمنت نقل عشرات الموظفين تعسفيًا من أماكن عملهم، في محاولة لتفريغ الإدارات من الأصوات المعارضة أو الشاهدة على الفساد.

 

ولم تكتفِ الإدارة بذلك، بل ابتدعت عقودًا جديدة للموظفين المؤقتين تصفها الاستغاثات بـ"عقود السخرة"، حيث تمنح الجامعة الحق في فصل الموظف في أي وقت، وتبيح الخصومات الجزافية التي تصل إلى نصف الشهر، في إهدار كامل لحقوق العاملين واستقرارهم الوظيفي. إن هذا التنكيل الممنهج ليس إلا وسيلة لإرهاب العاملين وإجبارهم على الصمت تجاه ما يجري من نهب منظم لمقدرات الجامعة.

 

دولة الفساد المحصنة

 

إن ما يحدث في جامعة حلوان ليس استثناءً، بل هو القاعدة في ظل نظام كرّس هيمنة المؤسسة العسكرية على كافة القطاعات المدنية. إن استعانة رئيس الجامعة بجنرال من الرقابة الإدارية – الجهة المنوط بها مكافحة الفساد – ليكون شريكًا في هذه التجاوزات، يضرب آخر مسمار في نعش الرقابة والمحاسبة في مصر. كيف يمكن لجهة رقابية أن تحاسب فاسدًا هو أحد أبنائها المنتدبين؟

 

إن حالة الغليان التي تشهدها جامعة حلوان اليوم، والتي انتقلت من الهمس إلى المنشورات العلنية، تنذر بانفجار وشيك قد لا تحمد عقباه. فبينما يكدس الجنرالات الملايين في حساباتهم، يعاني الموظف البسيط من "نزيف" راتبه وكرامته. إن هذه الصرخة القادمة من جامعة حلوان هي جرس إنذار أخير، يؤكد أن سياسة "عسكرة الجامعات" لم تجلب سوى الخراب المالي والإداري، وأن استمرار هذا النهج سيحول المؤسسات التعليمية إلى قلاع للفساد المحصن بقوة السلطة الغاشمة.