في مشهد يعيد إلى الأذهان أسوأ صور الاستبداد الانتخابي، تلقّت حكومة الانقلاب العسكري في مصر صفعة قاسية بعد إعلان الهيئة الوطنية للانتخابات، الثلاثاء، إلغاء المرحلة الأولى من انتخابات مجلس النواب في 19 دائرة انتخابية موزعة على 7 محافظات رئيسية. جاءت هذه الخطوة تحت ضغط الشكاوى، والانتهاكات الفاضحة، والانسحابات، وسط غياب تام لمعايير النزاهة، في عملية انتخابية حاول النظام تمريرها كواجهة ديمقراطية بينما كانت في حقيقتها أقرب إلى مسرحية هزلية محبوكة من أجهزة الدولة.

 

انتخابات مشوهة منذ البداية

 

لم تكن المفاجأة في إعلان الإلغاء، بل في أن النظام نفسه اضطر للاعتراف بأن حجم الانتهاكات لا يمكن تغطيته أو تمريره، خاصة بعد انسحاب مرشحين بارزين مثل النائبة السابقة نشوى الديب التي أعلنت انسحابها من دائرة إمبابة بعد ساعة فقط من بدء الاقتراع، مؤكدة "غياب النزاهة والشفافية"، وهو اعتراف صريح بأن العملية بأكملها كانت ملوّثة منذ اللحظة الأولى.

 

الدعاية الانتخابية أمام اللجان، ورفض تسليم محاضر فرز الأصوات، والفارق غير المنطقي بين أرقام اللجان الفرعية والعامة، هي فقط بعض العيوب "الجوهرية" التي رصدتها الهيئة. لكنّ الحقيقة الأوضح أن النظام فشل، رغم الترهيب والإغراء، في هندسة النتائج كما يشاء.

 

إعادة تحت الضغط.. لا تصحيح للمسار

 

القرار الصادر بإعادة الانتخابات في الدوائر الملغاة لم يكن خطوة نزيهة، بل محاولة لتخفيف الغضب الشعبي المتزايد، بعد فضائح موثقة بالصوت والصورة، مثل واقعة فتح صناديق الاقتراع قبل موعد الفرز في لجنة مدرسة مصطفى مشرفة بالإسكندرية. مشهد يكشف مدى استهتار القائمين على العملية الانتخابية، وثقتهم بأن لا محاسبة تنتظرهم.

 

حتى إعلان النتائج الجزئية جاء محاطًا بالشبهات: نسبة مشاركة هزيلة لا تتجاوز 24%، وأصوات باطلة تصل إلى مئات الآلاف، في وقت أُجبر فيه المواطنون على التصويت، سواء عبر الحشد الجماعي أو احتجاز بطاقاتهم الشخصية كما رصدت منصة "المنصة" في دوائر الجيزة.

 

الجيش الحاكم وشرعية ساقطة

 

ما حدث ليس سوى تأكيد جديد على فقدان النظام العسكري في مصر لأي شرعية حقيقية. حكومة السيسي، التي لا تزال تروج لنفسها كحامية للديمقراطية، انكشفت مجددًا أمام الداخل والخارج على أنها سلطة استبدادية تسعى لتزييف الإرادة الشعبية بأي ثمن.

 

النظام الذي لم يسمح حتى بإشراف القضاة – كما أعلن نادي القضاة – وفّر البيئة المثالية لشراء الأصوات، ومنع الشفافية، بل وتدخل في إعلان النتائج قبل انتهاء التظلمات. وما مطالبة السيسي نفسه بإلغاء المرحلة الأولى إذا تعذر "الوصول إلى إرادة الناخبين الحقيقية"، إلا محاولة فاشلة للتبرؤ من فضيحة شارك هو نفسه في صناعتها.

 

الدمى البرلمانية.. إلى متى؟

 

فوز القائمة الوطنية الموالية للنظام في دائرتي الصعيد وغرب الدلتا لم يكن انتصارًا ديمقراطيًا، بل تمريرًا شكليًا لقائمة تمثل الذراع البرلماني للنظام، وسط مشاركة ضعيفة ورفض شعبي واسع. أكثر من نصف مليون ناخب رفضوا التصويت لها، في ظل غياب حقيقي لأي منافسة.

 

في الوقت نفسه، استمرت مشاهد التزوير وشراء الأصوات في دوائر عدة، كما في دائرة أبو حمص، حيث رفضت الهيئة تسليم محاضر رسمية للمرشحين، ما يمثل انتهاكًا مباشرًا للقانون. في دمنهور وإيتاي البارود تكررت المشاهد نفسها، ما أدى إلى إلغاء النتائج جزئيًا.

 

الطريق المسدود: لا ديمقراطية تحت الحكم العسكري

 

ما جرى في انتخابات 2025 هو تجديد مأساوي لما جرى في انتخابات 2020 وما قبلها، والنتيجة واحدة: لا انتخابات حرة في ظل دولة تدار بالأمن والمخابرات، ولا تمثيل شعبي في برلمان تُحسم نتائجه في مكاتب الأجهزة السيادية.

 

هذه الحكومة لم تفشل فقط في تنظيم انتخابات، بل في إقناع الشعب بوجود أي أمل في التغيير من داخل النظام. ومع كل صندوق اقتراع يُفتح قبل موعده، ومع كل طابور مصطنع يُجبر فيه الناس على التصويت، يتضح أن الطريق إلى الديمقراطية في مصر لا يمكن أن يمر عبر هذه السلطة.

 

 

وفي الختام فقد تحولت الانتخابات في مصر إلى واجهة مزيّفة لسلطة لا تؤمن بالاختيار الحر. ومع كل جولة جديدة، تتآكل شرعية نظام يزداد قمعًا، وعزلةً عن شعبه. ما جرى في انتخابات البرلمان 2025 ليس مجرد فضيحة، بل رسالة جديدة أن التغيير لن يأتي من صناديق تحت سيطرة الحكم العسكري، بل من الشارع الذي يرفض أن يُستباح اسمه وإرادته.