كان الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم- جيلًا فريدًا في الفهم والعمل، فهم ورثة عهد النبوة، وسفراء الرسالة في زمن اكتملت فيه الشريعة وتجلّت فيه مقاصدها. ولذلك كان عملهم مصدرًا ثالثًا من مصادر التشريع بعد القرآن الكريم وسنة النبي ﷺ. وقد شكّل سكوتهم عن إنكار أفعال معينة أو اتفاقهم على ممارسة ما دلالة شرعية قوية. فكيف إذا كانت هذه الأعمال مذكورة في الكتاب والسنة، ومُدعمة بالإجماع وفضائل جليلة في كتب السير والمرويات؟

 

في هذا السياق، يستعرض الشيخ أحمد عبادي الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء في المغرب في كتابه الإسلام وهموم الناس،  نماذج من سير الصحابة، الذين جسّدوا تعاليم الإسلام بأرواحهم وأموالهم، فحملوا هموم الناس، وضربوا أروع الأمثلة في الإيثار والتضحية.

 

1. عبد الله بن رواحة: رجلٌ نذر نفسه لنصرة المستضعفين

 

عندما قُتل جعفر بن أبي طالب في غزوة مؤتة، حمل عبد الله بن رواحة الراية، وكان منهكًا جائعًا، لكنه رمى الطعام جانبًا وانطلق يقاتل حتى بُترت إصبعه. فردد أبياتًا تفيض شجاعة وصدقًا:

 

هل أنتِ إلا إصبع دميتِ وفي سبيل الله ما لقيتِ يا نفس إلا تقتلي تموتي...

 

وبينما كان يودّع الدنيا، طلّق زوجته وأعتق غلمانه، ووهب بستانه لله ولرسوله، مؤكدًا أن معركته لم تكن طمعًا، بل نصرة للحق ودفعًا للظلم.

 

2. أبو بكر الصديق: "أبقيت لهم الله ورسوله"

 

كان أبو بكر من أوائل من أنفقوا بسخاء على الدعوة، حتى لم يبق له من ماله إلا خمسة آلاف من أصل أربعين ألفًا. وفي يوم التبرع، أتى بكل ماله، فقال له النبي ﷺ: "ما أبقيت لأهلك؟"

 

قال: "أبقيت لهم الله ورسوله."

 

ولم يكن عطاؤه مقصورًا على المال، بل كان أول من ثبت في جميع الغزوات، من بدر إلى تبوك، حتى تسلّم راية الجيش.

 

3. عمر بن الخطاب: العدل الاجتماعي في أعلى صوره

 

كان أمير المؤمنين عمر يرفض أن يأكل أفضل الطعام حين يجوع الناس، ويطوف ليلًا ليتفقد أحوال الرعية. وحين رأى اللحم الطيب أمامه، قال: "بئس الوالي أنا إن أكلت أطيبها وأطعمت الناس كراديسها."

 

وقد نُقل عنه قوله المشهور: "لو مات جَدْيٌ على شط الفرات ضياعًا، لخشيت أن يُحاسب الله به عمر."

 

4. عثمان بن عفان: منفق العُسرة وصاحب بئر رومة

 

سُئل يوم حوصر: أتعرفون من اشترى بئر رومة للمسلمين؟ من جهّز جيش العُسرة؟ من وسّع المسجد؟

 

ثم قال النبي ﷺ عنه: "ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم"، في شهادة واضحة بمقامه عند الله ورسوله.

 

5. علي بن أبي طالب: زهد وعدل في أعلى درجاته

 

كان علي يخاطب الدنيا قائلاً: "يا دنيا غرّي غيري... قد بتّكِ ثلاثًا."

 

ورُوي عنه أنه كان يوزع أموال بيت المال حتى لا يبقى درهم، ثم يصلي في المكان الذي فُرغ من المال. وكان يتجول في الأسواق بدرته، يأمر بالعدل، ويُنهى عن الغش.

 

6. الحسن بن علي: صانع السلام رغم الخسارة

 

تنبأ النبي ﷺ قائلاً عن الحسن: "إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين."

 

وكان الحسن مثال الكرم، يقاسم ماله لله، ويعطي حتى النعل دون أن يُبقي لنفسه إلا مثله.

 

7. الحسين بن علي: ريحانة النبي وشهيد كربلاء

 

خرج الحسين من المدينة منكرًا ظلم يزيد، ورافضًا الانحراف عن طريق الشورى. قاتل في كربلاء دفاعًا عن مبادئ الإسلام، فاستُشهد مظلومًا يوم عاشوراء، سنة 61هـ، ليبقى رمزًا للثورة ضد الظلم والطغيان.

 

8. أبو سعيد الخدري: لا يخشى في الله لومة لائم

 

شهد بيعة الرضوان، وبايع مع ثلة من الصحابة على قول الحق، مهما كلّفهم. روى الحديث الذي قال فيه النبي ﷺ: "لا يمنعن أحدكم مخافة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو علمه." فكان تطبيقًا حيًا لذلك، إذ واجه معاوية، ونصحه دون تردد.

 

خاتمة: كل هذه النماذج تبرهن على أن الصحابة -رضي الله عنهم- لم يكونوا فقط ناقلين للأحاديث، بل كانوا نماذج تطبيقية للشريعة في الواقع المعاش، يعيشون مع الناس، ويجاهدون لأجلهم، ويتخلّون عن متاع الدنيا نصرةً للحق ورفعةً للضعفاء.

 

ومن هنا، يصبح عمل الصحابة حجة معتبرة، لأنه نابع من فهم صحيح للشريعة، وعيش صادق لها، لم يطلبوا به دنيا، ولا منصبًا، بل وجه الله تعالى.