يؤكد د. أحمد عبادي، رئيس قسم الدراسات الإسلامية بجامعة القاضي عياض، على أن غياب الوعي الشرعي في التعامل مع الواقع يؤدي إلى عجز الأمة عن تأطير حياتها بشكل فعّال، مما يتطلب اجتهادات شرعية وتنظيمية وتربوية مستمرة. ويستشهد التقرير بنماذج من الأنبياء مثل شعيب ويوسف وموسى عليهم السلام، الذين تبنوا قضايا أقوامهم وسعوا لحلها بعدل ورحمة.
كما يوضح أن الدين الإسلامي منهج متكامل يجمع بين العبادات الفردية والتكليفات الاجتماعية، ويؤكد أن الإيمان الحقيقي لا يكتمل إلا بالعمل الصالح وخدمة الناس.
فالإسلام لا يكتفي بالشعارات، بل يوجب علينا أن نترجم إيماننا إلى واقع عملي عبر التراحم والتكافل، مما يُجسّد روح الشريعة ويحقق الغاية من رسالة الأنبياء. ومن هنا، يتبين أن تبنّي هموم الناس ليس فقط واجبًا إنسانيًا، بل هو مطلب شرعي ودعوي أصيل.
غياب الوعي وأثره في التعامل مع مستجدات الواقع
في غياب الوعي المطلوب للتعامل الإيجابي مع الواقع، وتنظيمه بما يتماشى مع أرضيتنا القيمية، وفضائنا الحضاري، وخلفيتنا التاريخية، وبنيتنا الاجتماعية بمختلف أبعادها، يصبح الواقع غير مؤطَّر بشكلٍ كافٍ وفعّال. هذا النقص يستلزم اجتهادات متجددة في هذا الاتجاه — شرعية، وتنظيمية، وتربوية، وتعبوية — لتحقيق المقصود من إحداث كل هذه القنوات والآليات، وهو تبنِّي هموم الناس، بعد تبنيها بطريقة منهجية مسترشدة بالشرع الحنيف، من أجل الفوز بالنصيب من الشفاعة الحسنة التي وعد بها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
الأنبياء وتبنيهم لهموم مجتمعاتهم
وقد بين القرآن الكريم أن الأنبياء — بعد الدعوة إلى الله — كانوا من أولوياتهم تبنّي هموم أقوامهم، وآلامهم، وآمالهم. فمثلاً، نبي الله شعيب عليه السلام، تبنّى همومَ المستضعفين من قومه، وخاطب المستكبرين في شأنهم، حيث قال الله تعالى: «ألا تتقون * إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين * أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين * وزنوا بالقسطاس المستقيم * ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين» [الشعراء:177‑183]
وكذا نبي الله يوسف عليه السلام، حين تطوّع لتحمّل عبء توزيع المواد الغذائية في سنوات العجاف، فطلب من الله: «اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم» [يوسف:55]
وقد قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: «وسأل العمل، لعلمه بقدرته عليه، ولما فيه من المصالح للناس… ولما أخبرهم بشأن السنين التي ستكون صفرًا أو نحو ذلك، حتى يتصرف لهم بأصلح ما يكون». وهذا يدلّ على أن تبنِّي هموم الناس ليس عملًا ثانويًا بل هو من صميم رسالة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
ونبينا موسى وهارون عليهما السلام، حين خاطبا فرعون، طالبا أولًا إطلاقَ بني إسرائيل وعدم تعذيبهم واستضعافهم، قال تعالى: «إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى» [طه:47]
وهذه الآيات – بل وغيرُها كثير – تستخلص منها أن هذا الدين العظيم غرس في المؤمنين منهج التعاون والتراحم، ودعا إلى التكافل الاجتماعي، وإلى حمل هموم الناس في كل زمان ومكان.
التكافل والتراحم جزء من صميم الدين
نستخلص من هذه الآيات الكريمة أن الدين ليس مجرد شعائر فردية تُؤدى بمعزل عن الواقع، بل هو منهج متكامل: تتعاون فيه عباداته وشعائره وتكاليفه الفردية والاجتماعية، حيث تنتهي كلها إلى غاية تعود على البشر جميعًا. إنها منهج لتطهير القلوب، وإصلاح الحياة، والتعاون بين الناس، والتكافل في الخير والصلاح والنماء، وتجسيداً لرحمة الله السابغة بعباده.
ومن هنا، فإن من لا ينخرط في هذا الأمر — وهذا التعاون الاجتماعي — يكون من الذين كذبوا بالدين أو لم يفهموه حقًّا، لأنه حينما يُقال: إن الإنسان مسلم، وإنه مصدّق بهذا الدين، وقد يصلي ويؤدي شعائره، لكن الحقيقة أن الإيمان الحقيقي وتصديق الدين، تظل بعيدة عنه ما لم تظهر علاماتها على أرض الواقع، وعلى سلوك الفرد والمجتمع.
الإيمان الحقيقي يظهر في العمل الصالح
إن حقيقة الإيمان حين تستقر في القلب لا ترضى بأن تكون أفعال الشخص مقتصرة على كلمات تقال باللسان أو ممارسات سطحية. بل تتحرّك فورًا إلى تحقيق ذاتها في عمل صالح يُعنى بالآخرين، لا سيّما المحتاجين إلى الرعاية والحماية. فالله — عزّ وجلّ — لا يريد من الناس كلمات دون أفعال، بل يريد أعمالاً صادقة تطابق القول، وإلا فهي من عملٍ «هَبَاءً لا وزن له عنده ولا اعتبار».
وهذا يدعونا كأمة إلى أن نتبنى همومَ إخواننا في البشر ممن حولنا، بأن نكون يدًا ممدودة، وقلبًا رحيمًا، ومنهجًا متكاملاً في الحياة، لا نتركها لقسوة الاستكبار أو لهجة الفردانية التي تهمل الصالح العام وتنشغل بالذات. إن الأخوة الإنسانية والتكافل الاجتماعي ليست مجرد خيار بل هي واجب ديني وعقيدة حياة

