لم يكن مشهد بتر يد شاب في وضح النهار وسط شارع رئيسي بمدينة ميت غمر مجرد حادثة جنائية عابرة، بل كان بمثابة صرخة مدوية كشفت عن عمق الانهيار الذي وصلت إليه منظومة الأمن الاجتماعي في مصر. الفيديو الصادم الذي وثق الجريمة، ورغم بشاعته، إلا أنه قدم دليلاً حياً على أن المواطن المصري أصبح أعزل في مواجهة عنف متصاعد، بينما تقف الأجهزة الأمنية كشاهد غائب، أو بالأحرى، كحاضر منشغل بمهام أخرى يراها النظام أكثر أهمية من حماية أرواح المواطنين وأجسادهم.

 

تفاصيل فاجعة تكشف المستور

 

وقعت المأساة عندما حاول شاب الدفاع عن شقيقته من تحرش سائق "توكتوك"، لينتهي به الأمر في مواجهة سلاح أبيض حاد هوى على يده ليبترها في لحظة، قبل أن يلوذ الجاني بالفرار. تحركت وزارة الداخلية، كعادتها، بعد أن أحدثت الواقعة ضجة واسعة على وسائل التواصل الاجتماعي، وأعلنت في بيان رسمي عن القبض على الجاني الذي تبين أن "له معلومات جنائية". وهنا يكمن السؤال الأهم: كيف لشخص له سجل إجرامي أن يتجول بحرية حاملاً سلاحاً فتاكاً ويستعرض قوته في الشارع دون رادع؟ إن سرعة القبض على الجاني بعد انتشار الفيديو لا تمحو حقيقة الفشل الذريع في منعه من ارتكاب الجريمة ابتداءً. هذا التحرك الأمني اللاحق ليس دليلاً على الكفاءة، بل هو مجرد محاولة لاحتواء الغضب الشعبي وإغلاق ملف أثار الرأي العام، دون معالجة الأسباب الجذرية التي أنتجته.
 

 

أولويات مقلوبة: المعارض في السجن والبلطجي في الشارع

 

تكمن الإجابة على سؤال غياب الردع في الخلل العميق الذي أصاب عقيدة المؤسسة الأمنية في مصر خلال السنوات الأخيرة. لقد تحولت الأولويات بشكل كامل، حيث أصبح أمن النظام هو الهدف الأسمى، متقدماً بأشواط على أمن المواطن. ففي الوقت الذي تتطلب فيه ملاحقة بلطجي أو تاجر مخدرات جهداً استخباراتياً وميدانياً، نجد أن القبض على ناشط سياسي أو صحفي أو حتى مواطن عادي كتب منشوراً ناقداً على فيسبوك لا يتطلب سوى كبسة زر. لقد سخّرت الدولة إمكانيات هائلة لمراقبة الفضاء الإلكتروني، وتتبّع المعارضين، وتكميم الأفواه، وملء السجون بآلاف من سجناء الرأي الذين لم يرتكبوا جرماً سوى التعبير عن رأيهم.

 

هذه الطاقة الأمنية الهائلة، لو تم توجيه جزء بسيط منها لتأمين الشوارع وتطهيرها من حاملي الأسلحة البيضاء وأصحاب السوابق، لما تجرأ مجرم على بتر يد إنسان بهذه السهولة وفي مكان عام. المعادلة أصبحت واضحة ومؤلمة: الدولة ترى في الكلمة الحرة خطراً وجودياً يستدعي الاستنفار، بينما ترى في السكين والساطور مجرد أدوات في "مشاجرة"، يتم التعامل معها فقط عندما تتحول إلى فضيحة إعلامية. هذا الانقلاب في الأولويات خلق فراغاً أمنياً هائلاً في الشوارع، استغلته عصابات البلطجة لفرض سطوتها ونشر الرعب، مدركة أن عين الأمن موجهة إلى مكان آخر.

 

بيئة خصبة للعنف

 

لا يمكن فصل تنامي هذه الظاهرة عن السياق الاقتصادي والاجتماعي المتردي. فالفقر المدقع، وانسداد أفق المستقبل أمام الشباب، والشعور العام بالظلم وغياب العدالة، كلها عوامل تخلق بيئة مثالية لنمو العنف كوسيلة لإثبات الذات أو لكسب الرزق. عندما تفشل الدولة في توفير حياة كريمة لمواطنيها، وتستخدم قبضتها الحديدية فقط ضد منتقديها، فإنها عملياً تدفع بشرائح واسعة من المجتمع إلى حافة اليأس والجريمة. يصبح العنف لغة التخاطب، والبلطجة وسيلة لانتزاع الحقوق أو فرض الهيبة في مجتمع يشعر فيه الفرد بالضآلة والعجز.

 

إن حادثة ميت غمر ليست سوى عرض لمرض أعمق، عنوانه دولة تخلت عن دورها الأساسي في حماية مواطنيها، وانشغلت بحماية نفسها من أصواتهم. وما لم تحدث مراجعة جذرية للأولويات الأمنية، وإعادة توجيه موارد الدولة لخدمة المواطن بدلاً من قمعه، فإننا سنشهد المزيد من الأيادي المبتورة، والمزيد من الدماء المسفوكة في شوارع أصبحت تحكمها شريعة الغاب، تحت سمع وبصر جهاز أمني يرى في المواطن عدواً محتملاً لا ضحية تستحق الحماية.