كانت كل المؤشرات تنبئ بسقوط وشيك لمدينة الفاشر، آخر معاقل الجيش السوداني في إقليم دارفور. من تراجع قدرة الجيش على الانتشار إلى تفشي جرائم السرقة والنهب والاغتصاب، كانت المدينة تغرق في الفوضى.
لكن بالنسبة للأرملة السودانية إيمان عبده وأبنائها الثلاثة، لم تكن هذه الإشارات كافية لترك المكان الوحيد الذي عرفوه، خاصة مع تردي الأوضاع في مخيمات النزوح.

قصة إيمان، التي فقدت زوجها في الحرب وتعيش الآن وحيدة مع أطفالها الثلاثة، أكبرهم يبلغ السابعة والثاني الرابعة والثالث عامًا ونصف، هي قصة مدينة بأكملها تُركت لمصيرها، لتسقط فريسة سهلة في يد قوات الدعم السريع، وتطلق العنان لكارثة إنسانية تتكشف فصولها المروعة يوماً بعد يوم.
 

فرار تحت وابل الرصاص
جاء يوم 26 أكتوبر الأول 2025 ليحمل معه الكابوس المنتظر. انسحب الجيش السوداني والقوات المشتركة بشكل كامل، تاركين الفاشر غنيمة سهلة لقوات الدعم السريع التي فرضت حصارها الطويل على المدينة. في تلك الليلة، فوجئت إيمان، المرأة الأربعينية، بدخول عناصر مسلحة إلى حي "الدرجة" حيث تقيم. لم يكن أمامها خيار سوى اصطحاب أطفالها والفرار سيراً على الأقدام.

قطعت إيمان عشرات الكيلومترات في رحلة محفوفة بالمخاطر نحو مخيم طويلة للنازحين، الواقع على بعد 68 كيلومترًا غرب الفاشر. تروي إيمان معاناتها قائلة: "في الطريق اتعرضنا للسرقة والنهب والتفتيش غير الآدمي والتحرش بس كنا مصرين نوصل هدفنا".

وتضيف واصفة محنتها مع أطفالها الصغار: "كنت أضطر أشيلهم ف الطريق أو أقعد أستريح دقايق عشان ما تفوتني المجموعة وتمشي"، خشية أن يلحق بها المسلحون. في تلك الرحلة المروعة، كانت تحمل طفليها الصغيرين بينما تركت ابنها الأكبر ذا السبع سنوات مع جارتها، وكلما غاب عن عينها، كان الرعب يتملكها خوفاً من أن يكون قد أصابه مكروه.

لم تكن إيمان وحدها في هذه المأساة. وصلت إلى المخيم في نفس الوقت تقريباً الذي وصلت فيه تومة حسن عبد الله، المرأة الخمسينية التي خرجت من بيتها يوم الاثنين ومشيت 5 ساعات متواصلة. لكن رحلتها كانت أكثر إيلامًا، فقد أوقفتها قوات الدعم السريع واحتجزت ابنها محمد أحمد أحمادي (17 عامًا)، وهو معيلها الوحيد بعد وفاة زوجها قبل 5 سنوات. هددها المسلحون قائلين: "لو ما مشيتي هنقتله قدام عينيكي".
تركت ابنها ومضت، محاطة بمشاهد الموت، حيث كان الناس يتساقطون من حولها جرحى وقتلى برصاص الميليشيات العشوائي.
 

حصار الـ 500 يوم والكارثة الإنسانية
لم تبدأ معاناة الفاشر بسقوطها، بل سبقها حصار خانق استمر لأكثر من 500 يوم. خلال هذه الفترة، قُتل زوج إيمان في انفجار قذيفة بالسوق الذي كان يعمل فيه، لتجد نفسها وحيدة بلا مصدر دخل، تعتمد على مساعدات متقطعة من الجمعيات والتكايا. مع اشتداد الحصار قبل شهرين من السقوط، توقفت المساعدات تماماً، وأصبحت التكايا هي الملجأ الوحيد، لكنها كانت تقدم وجبات بشكل متقطع لندرة الطحين والطعام.

بعد السقوط، تحولت المدينة إلى بؤرة للفظائع الممنهجة. تقدر إيمان أعداد من تبقى في الفاشر ببضعة آلاف فقط، أما البقية فإما نزحوا أو قُتلوا أو احتُجزوا. تتفق هذه الشهادات مع معلومات حكومة الخرطوم، حيث صرحت وزيرة الدولة للموارد البشرية، سليمى إسحاق الخليفة، بأن الميليشيات "صفَّت جميع المرضى الموجودين في المستشفيات ومرافقيهم". وأدانت منظمة الصحة العالمية مقتل وإصابة أكثر من 460 شخصًا من المرضى والمرافقين، واختطاف ستة من العاملين في القطاع الصحي خلال هجوم على مشفى الولادة السعودي. وأكدت منسقة الأمم المتحدة، دينيس براون، أن قوات الدعم السريع استخدمت التجويع كسلاح حرب، حيث قُطع الدعم الإنساني عن المدينة فعليًا منذ أكثر من 500 يوم.
 

انسحاب الجيش وجرائم حرب ممنهجة
شكل سقوط الفاشر، آخر معقل للجيش في دارفور، نقطة تحول استراتيجية في الحرب. سيطرت قوات الدعم السريع على المدينة بعد الهجوم من خمسة محاور، بينما انسحب الجيش بشكل عشوائي دون حماية المدنيين أو تأمين خروجهم. يؤكد محمد صلاح، عضو مجموعة محاميي الطوارئ، أن هذا الانسحاب جعل المواطنين "يدفعون الثمن"، خاصة من ينتمون إلى قبيلة الزغاوة التي لها ثأر قديم مع الميليشيات.

تكشف الشهادات عن نمط من العنف الوحشي. تحدثت الوزيرة سليمى إسحاق عن استخدام العنف ضد النساء كسلاح انتقامي، مشيرة إلى شهادات عن عمليات اغتصاب تلاها القتل أمام الأسر، إلى جانب الإعدامات المباشرة للرجال والأطفال.

كما أشار عبد العزيز سليمان أروي، مدير الإعلام بحكومة إقليم دارفور، إلى استخدام "غازات سامة ومحرمة دوليًا" يصل أثرها إلى الشلل النصفي، خاصة لدى الأطفال وكبار السن. وأكدت بعثة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة أن المدينة تحولت إلى "بؤرة للفظائع الممنهجة، من قتل جماعي وعنف جنسي وتهجير قسري"، وطالبت بإنشاء هيئة قضائية مستقلة لمحاسبة مرتكبي الجرائم.

رغم وصولها إلى مخيم طويلة، لا تشعر إيمان بالأمان، فالمخيم مكتظ والاحتياجات تفوق بكثير ما يصل من مساعدات شحيحة. قصتها وقصة تومة، التي لا تزال تجهل مصير ابنها، هما صرخة في وجه عالم يبدو أنه أدار ظهره لمعاناة الآلاف العالقين بين مطرقة الحرب وسندان الإهمال الدولي، في انتظار مصير مجهول بينما تستمر المأساة في التوسع