لم يكن حفل افتتاح المتحف المصري الكبير حدثًا ثقافيًا فحسب، بل تحوّل إلى مرآة سياسية تعكس حجم العزلة التي يعانيها النظام الحاكم بقيادة قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي. فبينما حاولت الدولة تسويقه بوصفه «أكبر حدث حضاري في القرن الحادي والعشرين»، جاءت قائمة الغائبين لتكشف فراغ الصورة من رموز الداخل والخارج على حدّ سواء، لتتحول لحظة الافتتاح من مشهد احتفال وطني إلى علامة على تصدّع الشرعية الرمزية لمنظومة الحكم.
سخرية ابن علاء مبارك… ضربة رمزية لنظام يتجاهل التاريخ
أشعل عمر علاء مبارك، حفيد الرئيس الأسبق حسني مبارك، موجةً واسعة من الجدل عقب سخريته من الأخبار التي تحدّثت عن حضور والده للافتتاح، إذ قال: «يعني أبويا في الافتتاح؟ طب اللي قاعد جنبي بيقولي اعملي كوباية شاي ده مين؟».
قالك: جمال وعلاء مبارك هيحضروا افتتاح المتحف المصري الكبير… زي ما ولي العهد السعودي محمد بن سلمان هيحضر!
طب خد المفاجأة: ابن علاء مبارك بنفسه طلع وكذّب الكلام ده!
يعني لا علاء.. ولا جمال.. ولا حتى ولي العهد! كله إشاعات… لكن السؤال: مين اللي بيطلّعها؟ #المتحف_المصري_الكبير pic.twitter.com/lO9c4EdT1l
— وجع مصري (@93abm9r) November 1, 2025
هذه العبارة الساخرة تحوّلت إلى رمزٍ للتعبير عن شعور بالإقصاء من حدثٍ ارتبط تاريخيًا بعهد مبارك، إذ وُضع حجر الأساس للمتحف عام 2002 في زمنه، وافتتحت سوزان مبارك مرحلتيه الأولى والثانية عام 2010.
غيابٌ عربي ودولي يفضح العزلة
رغم محاولات الدعاية الرسمية تصوير الحفل كملتقى عالمي، إلا أن غياب أبرز القادة العرب والدوليين كشف هشاشة العلاقات الخارجية للنظام.
فلم يحضر ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ولا رئيس دولة الإمارات محمد بن زايد، ولا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ولا الرئيس التونسي قيس سعيّد، ولا حتى الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الذي سبق أن كانت القاهرة تراهن على حضوره الرمزي.
وبدلاً من ذلك، اقتصرت الوفود على تمثيل دبلوماسي محدود، في حين حضر عدد من الملوك الأوروبيين وشخصيات ملكية رمزية، الأمر الذي قرأه مراقبون كرسالة باردة من العواصم الكبرى مفادها أن القاهرة لم تعد مركز ثقل سياسي أو ثقافي في المنطقة.
تجاهل سوزان مبارك… إنكار متعمّد للجذور
سوزان مبارك، التي ارتبط اسمها بالمتحف منذ وضع لبناته الأولى، غابت عن المشهد تمامًا رغم ما كان لها من دور مباشر في دعم المشروع وبناء مركز الترميم الدولي التابع له.
ويرى مثقفون أن استبعادها من الحضور الرسمي يعكس نهجًا ثابتًا لدى النظام في محو الأدوار السابقة وإعادة كتابة التاريخ وفق منطق «كل ما قبل السيسي لا يُذكر»، في إطار سعيه لاحتكار الرمزية الوطنية والثقافية.
قراءة الحقوقيين والمثقفين: المتحف مشروع ثقافي ضخم لكنه بلا روح
أجمع عدد من الحقوقيين والمثقفين على أن الحفل الذي أُريد له أن يكون عنوانًا لنهضة ثقافية، بدا خاليًا من المعنى الإنساني والروح الوطنية.
فحقوقيون يرون أن غياب رموز الدولة التاريخية، وفي مقدمتهم أسرة مبارك، يُعبّر عن منهج استبدادي يسعى لطمس الذاكرة العامة واحتكار كل منجز باسم السلطة القائمة.
أما المثقفون، فأشاروا إلى أن المتحف، على ضخامته، يعكس تناقضًا بين عظمة الحضارة المصرية القديمة وفقر الخيال السياسي الحديث، فالمتحف صرحٌ ماديٌّ هائل محاطٌ بفراغٍ رمزيٍ خانق، حيث غابت عنه الشخصيات التي أسست المشروع، وغابت عنه الوجوه التي تمثل التنوع الثقافي الحقيقي لمصر.
حفل دعائي يغطي على واقع مأزوم
تقول مصادر ثقافية مستقلة إن الحفل جاء أقرب إلى استعراض سلطوي هدفه إقناع الداخل والخارج بأن مصر تعيش حالة ازدهار، في حين أن الواقع الاقتصادي والاجتماعي يشي بعكس ذلك تمامًا.
ويؤكد محللون أن النظام اعتمد على المتحف لتلميع صورته بعد سنوات من القمع وتدهور الخدمات وارتفاع معدلات الفقر، غير أن المشهد خذله؛ فالحضور المحدود والغياب اللافت للقادة البارزين جعل الحدث يبدو مصطنعًا، فاقدًا للصدق والمشاركة الشعبية.
لقد تحوّل افتتاح المتحف المصري الكبير من مناسبة ثقافية يفترض أن توحّد المصريين وتستدعي فخرهم الحضاري، إلى مرآة تعكس عزلة النظام الحاكم وتوتر علاقاته الداخلية والخارجية.
فبين سخرية عمر علاء مبارك التي كشفت زيف الدعاية الرسمية، وغياب رموز عربية ودولية كبرى، وتجاهل من أسهموا فعليًا في تأسيس المشروع، بدا المشهد كله إعلانًا صامتًا عن أزمة الشرعية السياسية والثقافية في عهد قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي، الذي يملك القوة العسكرية لكنه فقد القدرة على إنتاج المعنى والرمز.

