د. عبد الله معروف
كاتب فلسطيني، مدير مركز دراسات القدس بجامعة إسطنبول 29 مايو
لا يكاد يمر يوم دون أن يتحفنا اللوبي الإنجيلي الديني المساند لإسرائيل في الولايات المتحدة بمفارقة جديدة يحاول من خلالها أن يثبت أن أتباعه لا يرون أنفسهم خدما لبلدهم، وإنما يضعون أنفسهم في خدمة إسرائيل أولا، ويعتبرون مصالحها فوق كل اعتبار مهما كان.
ولا يلقي هؤلاء بالا لكل ما يمكن أن يؤدي له هذا الهوس المرَضي بإسرائيل من تناقضات صارخة مع الرأي العام الأميركي نفسه، فضلا عن الرأي العام العالمي، ولا سيما في ظل حرب الإبادة التي لا تزال غزة تعاني آثارها وتبعاتها يوميا.
واحدة من آخر تقليعات هذا التيار كانت قبل أيام، حيث كشف موقع "ميدل إيست مونيتور" عن تحركات في الكونجرس الأميركي يقودها عضوان جمهوريان، هما كلوديا تيني، وكلاي هيجينز، لتقديم مقترح قانون يعترف بالسيادة الإسرائيلية الكاملة على المسجد الأقصى المبارك (الذي يطلق عليه في مشروع القانون اسم: "جبل المعبد") بكامل مساحته البالغة 144 دونما، وجميع ما فيه من معالم وعلى رأسها قبة الصخرة المشرفة والجامع القِبلي، والمطالبة بالسماح لليهود بالدخول غير المشروط أو المحدد، وإقامة كافة طقوسهم الدينية بحرية كاملة داخل المسجد.
في صيغة تشبه إلى حد كبير قانون الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية للقدس، الذي أقره الكونجرس عام 1995 بالإجماع، وبقي تنفيذه مؤجلا حتى أقدم الرئيس دونالد ترامب على تنفيذه عام 2017 خلال فترة رئاسته الأولى.
كلوديا تيني وكلاي هيجينز عضوان جمهوريان في مجلس النواب الأميركي عن كل من ولاية نيويورك، وولاية لويزيانا على التوالي، وهما من أشد المؤيدين لإسرائيل، ويحظيان بدعم مالي دائم من لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (أيباك).
كلوديا تيني كانت هي التي قدمت لمجلس النواب الأميركي مشروع قرار تغيير اسم الضفة الغربية إلى "يهودا والسامرة" في نهاية شهر يناير/كانون الثاني 2025، وتعتز بانتمائها للطائفة المسيحية المشيخية، وتعلن في كثير من المناسبات أن وقوفها مع إسرائيل يأتي بدوافع دينية بحتة.
أما كلاي هيجينز، فهو معروف بعنفه الشديد ضد كل ما يمت للإسلام بصلة، إلى درجة اضطرار إدارة موقع فيسبوك إلى حذف كثير من منشوراته التي ينشر فيها التحريض الديني ضد الإسلام والمسلمين، وهو معروف بشكل عام بخطابه الديني المتطرف والعدواني، بل والذي يصل أحيانا حد الدعوة إلى العنف الجسدي.
ويحظى مشروع القانون الذي يجهزه هذان العضوان بدعم منظمتين يمينيتين كبيرتين هما (المنظمة الصهيونية الأميركية) و(مؤسسة حقيقة الشرق الأوسط)، وهما منظمتان من أهم أذرع اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة.
فالمنظمة الصهيونية الأميركية تأسست عام 1897 مباشرة بعد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل في سويسرا، وهي تعتبر أعرق وأقدم المنظمات العاملة لأجل خدمة مصالح إسرائيل في الولايات المتحدة، وتعتبر الأم الكبرى لأغلب المنظمات وجماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل هناك، وأغلب مؤسسي وأعضاء تلك الجماعات هم من العاملين في هذه المنظمة.
أما (مؤسسة حقيقة الشرق الأوسط)، فقد أسستها المتطرفة سارة ستيرن، التي كانت عضوا في المنظمة الصهيونية الأميركية، عام 2005 خلال فترة الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، وتقدم نفسها على أنها مركز تفكير إستراتيجي يقدم النصائح والتقارير والتحليلات السياسية لصناع القرار في الولايات المتحدة حول الصراع في الأراضي الفلسطينية.
ونشاط هذه المنظمة الإعلامي والسياسي غالبا ما يتبنى رؤية تدعي أن ما تسميه "الإسلام الراديكالي" هو تهديد أساسي لأمن الولايات المتحدة وإسرائيل، وفي العادة تروج في دراساتها وتقاريرها لخيارات سياسية لا تأخذ الوجود الفلسطيني أو حقوق الشعب الفلسطيني بعين الاعتبار مطلقا، وبالتالي فهي منظمة أيديولوجية أكثر منها مؤسسة بحثية.
وللمفارقة، فإن سارة ستيرن مؤسسة ورئيسة هذه المنظمة، كانت واحدة من الشخصيات الرئيسية التي عملت على تشجيع ودعم مبادرات قوانين جدلية في الكونجرس الأميركي تحولت بالفعل إلى قوانين نافذة، مثل قانون نقل السفارة الأميركية إلى القدس عام 1995، وقانون محاسبة سوريا واستقلال لبنان عام 2003، وقانون الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان عام 2019.
بالتالي فإن دخول هاتين المؤسستين على خط هذا المشروع ودعمهما له يعطيه دفعة قوية داخل أروقة الكونجرس، ويوحي بأن القائمين عليه سيضعون قوتهم الكاملة في سبيل إقراره وتمريره، مستغلين في ذلك التوجهات الدينية المسيحية للإدارة الأميركية الحالية، وطغيان الجانب الديني على القوى التي ما زالت تؤيد إسرائيل في أروقة السياسة الأميركية، ولا سيما داخل الحزب الجمهوري المسيطر على غرفتي التشريع: مجلس النواب، ومجلس الشيوخ.
لكن هذا التعويل لا يقتصر على التيار الديني في الحزب الجمهوري فقط، فالتيار الوطني الأبيض في الحزب الجمهوري الذي بدأ يظهر معارضته للتغلغل الإسرائيلي العميق في أروقة السياسة الأميركية، يعلن ذلك لأسباب سياسية وقومية بحتة لا علاقة لها بالدين.
فهو لا يعادي إسرائيل بذاتها وإنما يعارض تدخلها في السياسة الداخلية الأميركية، أما من الناحية الدينية، فإن من المعروف أنه حتى في أروقة التيار الوطني في الحزب الجمهوري، يعتبر موضوع الأماكن المقدسة في القدس مسألة محسومة لا جدال فيها. حيث لا يختلف اثنان في التيارات المحافظة- القومية والدينية- على كون المسجد الأقصى المبارك "معبدا" في الأصل، وجزءا من التراث الديني اليهودي الذي يرتبط بقصص المسيح في الإنجيل، وأن الحق فيه بالتالي ليس إسلاميا خالصا.
إن القائمين على مقترح هذا القانون يلعبون لعبة في غاية الخطورة، فهم يحاولون- سواء علموا أم لم يعلموا- إشعال فتيل معركة دينية تماما كما يفعل تيار الصهيونية الدينية في إسرائيل، لكن الجديد هذه المرة هو أنهم يقحمون الولايات المتحدة برمتها في مواجهة دينية مع العالم الإسلامي، تعلن فيها الولايات المتحدة الحرب على المسجد الأقصى بكل ما يمثله من عقيدة دينية راسخة لدى المسلمين، وهذا في الحقيقة جر للولايات المتحدة إلى مربع خطر لا يمكن لأحد توقع تبعاته.
وعلى الناحية السياسية، فإن هذا القانون- إن تمكن القائمون عليه من تمريره- يعني بالضرورة إعلان الحرب على السيادة والوصاية الأردنية على المسجد الأقصى المبارك.
وهذه الوصاية تعتبر من أساسيات نظام الحكم في الأردن كما هو معروف، وبالتالي فإن هذا التحرك يضع الإدارة الأميركية في مواجهة مع الأردن واستحقاقات سيادته التي لا يمكنه التنازل عنها بحال. فأي تساهل من الأردن في هذا الموضوع سوف يضعه في مواجهة شعبية عارمة لا في الداخل الأردني فحسب، بل في العالم الإسلامي برمته، وهذا ما لا يمكن تصور قبوله أردنيا، ولذلك ينبغي للأردن مواجهته فورا.
على أن هذا الأمر لا يخص الأردن وحده، فكون مشروع القانون يخص المسجد الأقصى بمكانته ورمزيته الدينية العميقة، يجب أن يستدعي تحركا على مستوى العالم الإسلامي كاملا، حيث لا يجوز التقليل من حجم خطوة كهذه، لو تمت.
والواجب على السياسيين في العالم العربي والإسلامي تصعيد اللهجة في وجه هذه المحاولة حتى قبل أن يتم تقديم مشروع القانون إلى الكونجرس، وعدم الانتظار إلى أن يصبح القانون أو حتى مشروعه أمرا واقعا، فمجرد طرح مشروع قانون كهذا في الكونجرس هو بحد ذاته خطوة شديدة العدوانية في حق العالم الإسلامي كله، ولا تقل خطورة عن الاعتداء على أي ثابت من ثوابت الدين الإسلامي كالقرآن الكريم أو الكعبة المشرفة أو شخص النبي محمد- صلى الله عليه وسلم- أو أي من مقدسات المسلمين.
ولذلك، فإن تصعيد اللهجة ومواجهة هذه الفكرة وهي لا تزال في مهدها كفيل بردع هذه الجهات وغيرها ووقفها.
الولايات المتحدة الأميركية منذ اليوم الأول لحرب الإبادة جعلت نفسها حليفا مطلقا- يكاد يكون وحيدا الآن- لإسرائيل، إذ عملت على منع أي محاولة لتجريم إسرائيل، أو حتى إصدار قرار من مجلس الأمن بوقف إطلاق النار- عبر (الفيتو) الأميركي المتكرر- حتى في الحالات التي اتفقت فيها جميع دول العالم.
ولكنها في كل ذلك كانت تتذرع في دعمها لإسرائيل بذرائع سياسية من منطلق المصالح الأميركية في الشرق الأوسط، أما هذا القانون فلا مبرر سياسيا له؛ لأنه قانون ذو طابع ومنطلقات دينية مسيحانية بحتة.
إن كانت إسرائيل اليوم خالية من العقلاء بعد إحكام تيار الصهيونية الدينية المتطرف سيطرته على أغلب مفاصل الدولة، فإنه لا أقل من أن تمنع الدولة العميقة في الولايات المتحدة هذا الجنون، حتى إن المدافعين الشرسين عن حلفائهم الأميركيين في العالم العربي لا يمكنهم بحال تبرير مثل هذا التوجه الأميركي الخطير للتعدي على أقدس الرموز الدينية في المنطقة، والذي لا يخص الفلسطينيين وحدهم بل العالم الإسلامي بأجمعه.
والواجب على عقلاء العالم لجم هذه التوجهات الخطيرة لدى أتباع هذا التيار، فهم في الحقيقة يريدون إشعال حرب دينية سعيا وراء استجلاب أسطورة الحرب الأخيرة المقدسة ونزول المسيح المخلص، ويجب وقف هذا الجنون، وإلا فإنه سيؤدي إلى صراع ديني لن تكون فيه الولايات المتحدة ولا إسرائيل المنتصرتين بحال، لأنهما تعاندان المنطق والعقل والحقيقة، وتستدعيان صراعات دينية، عمل العالم مئات السنين على محاولات تجاوزِها.

