مدينة محاصرة بالتعتيم والموت
منذ اندلاع الحرب في السودان بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، تحوّلت مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، إلى واحدة من أخطر بؤر العنف والدمار. وفي خضم هذه الفوضى الأمنية والإنسانية، تتعرض الفاشر لحملة همجية تقودها ميليشيات الجنجويد المتحالفة مع قوات الدعم السريع، تشمل القتل الجماعي، القصف المدفعي، النهب، والاغتصاب، وسط صمت دولي وإعلامي مريب.
أمام هذا التعتيم المقصود، برزت حملات التدوين والتوثيق على وسائل التواصل الاجتماعي كأداة شعبية وحقوقية لكسر الحصار الإعلامي المفروض، ونقل الواقع المأساوي من أرض المعركة إلى شاشات العالم، بهدف فضح الجرائم، وتوثيق الانتهاكات، والمطالبة بالمساءلة الدولية.
من الجنجويد إلى الدعم السريع: هوية الجريمة واحدة
تعرف ميليشيات الجنجويد بتاريخها الدموي في دارفور منذ أوائل العقد الأول من الألفية، حين تورطت في الإبادة الجماعية والتهجير القسري. واليوم، وهي تُعاد دمجها داخل قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، تعود هذه الميليشيات بوجه أكثر تنظيمًا وتسليحًا، ولكن بنفس الاستراتيجية القائمة على التطهير العرقي والترويع.
وبحسب تقارير ميدانية وحقوقية، فإن ما يحدث في الفاشر هو تكرار فج لجرائم الحرب المرتكبة سابقًا، ولكن بغطاء عسكري جديد. قرى تُحرق بالكامل، نساء يُغتصبن، سكان يُعدَمون ميدانيًا، ومرافق صحية تُقصف، في مشهد يختزل مأساة دولة تتفكك تحت نيران ميليشيات خارجة عن القانون.
حملات التدوين: عدسة تقاوم الطمس
في ظل غياب التغطية الإعلامية التقليدية، خاصة بعد فرار أغلب الصحفيين والمؤسسات الإعلامية من مناطق الصراع، لجأ السكان المحليون والناشطون إلى منصات التواصل الاجتماعي كملاذ أخير لكشف الحقيقة. وتحت وسوم مثل #الفاشر_تُباد و**#DarfurGenocide**، وثّقت هذه الحملات:
- مشاهد القصف العشوائي على المدنيين.
- مقاطع فيديو لأمهات يودعن أبناءهن تحت الركام.
- شهادات عن جرائم اغتصاب جماعية ارتُكبت أمام أسر بأكملها.
- صور لمستشفيات دُمّرت بالكامل، ومقابر جماعية تُكتشف يوميًا.
لم تكن هذه المواد مجرد أدوات إخبارية، بل أدلة جنائية حية تتناقلها منظمات دولية لتكوين ملفات قانونية، وربما تُستخدم لاحقًا في محاكمات دولية لمرتكبي الجرائم.
تأثير الحملات على الرأي العام والدبلوماسية الدولية
مع تزايد زخم الحملات، تحركت مؤسسات دولية مثل المحكمة الجنائية الدولية، التي أكدت عودة التحقيق في جرائم دارفور، وأصدرت أوامر توقيف جديدة بحق قيادات في قوات الدعم السريع والجنجويد، مثل علي كوشيب الذي يواجه تهمًا تتعلق بالإبادة والاغتصاب والتعذيب.
ورغم التحديات، دفعت هذه الحملات بعض الحكومات والمنظمات غير الحكومية إلى إصدار بيانات إدانة والدعوة لتحقيق دولي مستقل. كما ضاعفت من الضغط الشعبي على المؤسسات الأممية المتقاعسة عن التدخل، خصوصًا مع تحذيرات من تكرار سيناريو رواندا في دارفور، إذا استمر الصمت الدولي.
التحديات التي تواجه حملات التوثيق
رغم الدور المحوري الذي تلعبه، تواجه هذه الحملات تهديدات أمنية وتقنية جسيمة، منها:
- استهداف مباشر للنشطاء المحليين، حيث سُجلت حالات اغتيال واعتقال لناشطين بارزين في توثيق الانتهاكات.
- قطع خدمات الإنترنت بشكل متعمد، لعزل الفاشر ومنع نقل الصور الحية.
- التشويش المعلوماتي والتضليل عبر حسابات مزيفة تهدف لنفي الجرائم وتشويه صورة الناجين.
ومع ذلك، تواصل هذه الحملات عملها بإرادة من لا يملك شيئًا إلا الكلمة والصورة، ساعية إلى اختراق الحجب وكشف الحقيقة.
وأخيرًا التدوين كفعل مقاومة في زمن التوحش
أثبتت حملات التدوين والتوثيق في الفاشر أن أدوات المقاومة لم تعد حكرًا على من يملكون السلاح، بل يمكن للكلمة والصورة أن تقلب معادلة الصمت، وتمنح الضحايا صوتًا عالميًا. إن ما يحدث في الفاشر اليوم ليس فقط كارثة إنسانية، بل اختبار حقيقي لإنسانية العالم بأسره.
إذا استمر التعتيم وغياب المحاسبة، فإن الجريمة لن تتوقف عند دارفور، بل ستتكرر في أماكن أخرى، مستفيدة من صمت المتفرجين. لذلك، فإن دعم هذه الحملات، وتوسيع نطاقها، وربطها بمؤسسات قانونية دولية، هو خطوة ضرورية ليس فقط لحماية الفاشر، بل لحماية مفهوم العدالة ذاته.

