بين الحاضر العاجل والماضي العميق

 

تشهد منطقة الخليفة التاريخية في قلب القاهرة واحدة من أخطر موجات الاعتداء على التراث الإسلامي والإنساني في مصر، حيث تتعرض مدافن السيدة نفيسة والإمام الشافعي، وغيرها من القباب والمقابر الأثرية، لعمليات هدم وإزالة تحت غطاء ما يسمى "مشروعات تطوير محور صلاح سالم". هذه العمليات أثارت غضبًا شعبيًا ونقدًا سياسيًا متصاعدًا، في مقدمتهم حسين منصور، نائب رئيس حزب الوفد، الذي وصف ما يحدث بأنه "اعتداء على روح مصر"، مطالبًا بوقف الهدم فورًا والحفاظ على ما تبقى من تراث المصريين.

 

قلب القاهرة: ذاكرة منسية تحت الجرافات

 

تُعد منطقة الخليفة من أقدم أحياء القاهرة، وموطنًا لمزارات وأضرحة عظماء المسلمين، من بينهم السيدة نفيسة، حفيدة الإمام الحسن بن علي، والإمام الشافعي، مؤسس أحد أهم المذاهب الفقهية في الإسلام. هذه المنطقة ليست مجرد مكان عبادة، بل تمثل طبقة جيولوجية من هوية مصر، تتداخل فيها العمارة الإسلامية والتاريخ الاجتماعي والديني على مدار ألف عام.

 

لكن التطوير العمراني الذي يُنفذ حاليًا يتجاهل كل هذه الاعتبارات. آلات الهدم لا تفرّق بين قبر أثري ومبنى عشوائي، وعمليات الإزالة، بحسب شهود العيان ومقاطع الفيديو المتداولة، تشمل قبابًا ومقابر لها قيمة معمارية وتاريخية مسجلة في وزارة الآثار.

 

التنمية أم الطمس؟

 

رغم تأكيد المسؤولين أن ما يتم هو "تطوير حضاري"، فإن المشهد على الأرض يعكس تناقضًا صارخًا بين الشعارات والنتائج. فالهدم لا يُرافقه ترميم أو توثيق، ولا يُدار بواسطة خبراء آثار أو تراث، بل يتم تحت إشراف إدارات تنفيذية لا تُولي اعتبارًا للخصوصية التاريخية للمنطقة.

 

هذا التناقض دفع كثيرًا من الناشطين والمعماريين إلى التشكيك في جدوى هذه "التنمية"، معتبرين أنها تسير بنفس النهج الذي أدى إلى تجريف منطقة ماسبيرو وسور مجرى العيون، والتي حُوّلت إلى مناطق تجارية وسكنية فاقدة للهوية، بعد طرد سكانها وتدمير معالمها.

 

الرد الرسمي: إنكار ونفي وسط الغبار

 

الجهات الحكومية تؤكد أن المقابر الأثرية "لن تُمس"، وأن أعمال التطوير تهدف إلى توسعة الطرق وتحسين الخدمات. لكن الصور واللقطات الميدانية تكشف عن تدمير فعلي لمقابر تعود لعصور مختلفة، بعضها يحمل نقوشًا نادرة وتفاصيل معمارية لا تُقدّر بثمن.

 

نائب رئيس حزب الوفد، حسين منصور، انتقد هذه التبريرات، مؤكدًا أن "المطالبات بوقف الهدم قوبلت بالتجاهل، وأن هناك نية مبيتة لتفريغ المنطقة من سكانها ومعالمها"، محذرًا من كارثة حضارية ستدفع مصر ثمنها طويلًا.

 

الضريبة الاجتماعية والدينية

 

الهجوم على مدافن السيدة نفيسة والإمام الشافعي ليس فقط جريمة في حق التراث، بل هو صدع في العلاقة بين الدولة والمجتمع. في بلد تعتبر فيه الأضرحة جزءًا من الهوية الشعبية والدينية، تمثل هذه الإزالات تعديًا على مشاعر ملايين المصريين.

 

كما أن إزالة القبور دون مراعاة حرمة الموتى، أو تهيئة بدائل مناسبة لأصحاب الحقوق، يفتح الباب أمام أزمة اجتماعية وأخلاقية، تتجاوز مجرد "تطوير طريق" أو "فتح محور".

 

الحل: التنمية لا تعني الهدم

 

ما تحتاجه منطقة الخليفة ليس هدم المقابر، بل مشروع ترميم شامل يحترم الذاكرة الحضرية، ويعيد تأهيل المناطق دون اقتلاع تاريخها. يمكن تطوير الخدمات والبنية التحتية دون المساس بالمقابر التاريخية، عبر حلول هندسية ذكية ومسارات بديلة.

 

ينبغي للحكومة أن تعي أن احترام التراث لا يتعارض مع التحديث، بل يُعزّز مكانة مصر كبلد ذي جذور عميقة. كما أن حوارًا مفتوحًا مع المجتمع المدني وخبراء التراث والأهالي هو ضرورة، وليس ترفًا، في ظل تصاعد التوترات وفقدان الثقة في السياسات العمرانية الحالية.

 

واخيرا حين تتقدم الجرافة على التاريخ

 

ما يجري في منطقة الخليفة هو اختبار حقيقي لضمير الدولة المصرية: هل يمكن أن تقود التنمية دون تدمير؟ هل تستطيع التوفيق بين الماضي والحاضر؟ حتى الآن، الإجابة تتشكل على هيئة غبار يعلو قبابًا مهدمة وصمتًا رسميًا يُقابل بصراخ من أهالي متمسكين بتراب أجدادهم. والنتيجة؟ خسارة لا تُعوّض... لتاريخ لا يُستبدل.