في وقت تتغنى فيه الحكومة بإنجازات وهمية في “دعم الشباب والرياضة”، تكشف الأرقام الرسمية عن واقع مغاير تمامًا: نزيف حاد في أعداد الرياضيين المصريين، وهروب أبطال نحو دول تمنحهم ما حرموا منه في وطنهم.

تقرير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء الأخير لم يكن مجرد أرقام جامدة، بل شهادة موثقة على فشل سياسات الدولة في الحفاظ على كنوزها البشرية، وتحويل الحلم الرياضي إلى عبء ومعاناة.

 

جذور الأزمة: إهمال ممنهج وفساد مستشرٍ
تكشف البيانات أن الرياضة المصرية فقدت ما يقرب من 350 ألف رياضي خلال العقد الماضي، وهو ما يعادل أكثر من ثلث اللاعبين المسجلين رسميًا. لكن خلف هذا الرقم المروع، تتوارى منظومة منهكة بالإهمال الإداري والفساد المالي.

رواتب هزيلة لا تليق بالأبطال — مثل بطل إفريقيا في الترايثلون الذي لم يتقاضَ أكثر من 600 جنيه شهريًا — ونظام طبي مهترئ يجبر اللاعبين على علاج أنفسهم من جيوبهم، كما حدث مع المصارع طارق عبد السلام الذي اضطر لمغادرة البلاد إلى بلغاريا ليحقق ميدالية ذهبية باسمها.

تراجع مخصصات الرياضة في الموازنة العامة من 0.6% عام 2010 إلى 0.4% عام 2019، يعكس مدى تراجع اهتمام الدولة بالقطاع.

ويقول الخبير الرياضي محمد عبد النبي إن “الحكومة تتعامل مع الرياضة كرفاهية لا كاستثمار وطني”، محذرًا من أن التعديلات الأخيرة على قانون الرياضة “قد تعيد شبح التدخل الحكومي وتهمش الكفاءات الفنية والقانونية”.

 

هروب الأبطال: من الفخر الوطني إلى الغربة القسرية

تحولت ظاهرة “هروب الرياضيين” إلى عنوان دائم في نشرات الأخبار، بعد أن كانت مجرد استثناءات.

قائمة الأبطال المهاجرين تضم المصارع أحمد بغدودة الذي لجأ إلى فرنسا، وفارس حسونة بطل رفع الأثقال الذي أهدى قطر ذهبية أولمبياد طوكيو، والأخوان محمد ومروان الشوربجي اللذان فضّلا تمثيل إنجلترا، وأخيرًا المصارع محمد إبراهيم (كيشو) الذي يسعى للجنسية الأمريكية بعد سنوات من الوعود الفارغة.

ويعلق النائب عبد المنعم إمام، أمين سر لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب، قائلًا: “تكرار حوادث الهروب يؤكد فشل الوزارة وسياستها في تقدير ودعم اللاعبين والموهوبين، فبدلًا من احتضانهم، يتم التضييق عليهم حتى يغادروا”.

 

بيان الوزارة.. اتهامات بدلًا من الإصلاح
أثار بيان وزارة الشباب والرياضة الأخير موجة انتقادات واسعة بعد وصفها تجنيس اللاعبين بأنه “هجرة غير شرعية واتجار بالبشر”.

الخبراء رأوا في هذا الموقف تعبيرًا عن ذهنية متعالية تحاول إلقاء اللوم على الضحايا بدلًا من الاعتراف بالخلل المؤسسي.

يقول نور خليل، المدير التنفيذي لـ"منصة اللاجئين في مصر": “البيان غريب وغير متسق مع القانون المصري والدولي، فالتجنيس حق مشروع لأي رياضي يبحث عن بيئة أفضل، بينما مصادرة جوازات سفر اللاعبين هو الفعل غير القانوني الحقيقي”.

وتضيف الحقوقية عزيزة الطويل أن خطاب الوزارة “يعكس جهلًا قانونيًا ومفاهيميًا”، مشيرة إلى أنه “يستخدم لهجة أبوية لتشويه صورة الرياضيين، بدلًا من إصلاح البيئة التي دفعتهم إلى الهجرة”.

 

نزيف المواهب مستمر.. والحكومة في موقع المتفرج

رغم كل التحذيرات، لا يبدو أن الحكومة بصدد مراجعة سياساتها، إذ تواصل الوزارة التركيز على “الشو الإعلامي” والمهرجانات، بينما يغادر الأبطال الواحد تلو الآخر بحثًا عن تقدير وعدالة مفقودة.

الأزمة لم تعد رياضية فقط، بل مرآة لأزمة أعمق في إدارة الدولة لمواردها البشرية.

فبينما تصر الحكومة على التبرير، يتساءل الشارع: من سينقذ الرياضة المصرية من موتها البطيء؟