تأتي توقعات صندوق النقد الدولي الأخيرة كصفعة جديدة على وجه المواطن المصري، الذي لم يكد يلتقط أنفاسه من موجات الغلاء المتتالية.

ففي تقريره "آفاق الاقتصاد العالمي" الصادر في أكتوبر 2025، يرسم الصندوق صورة قاتمة لمستقبل الجنيه، متوقعًا أن يصل متوسط سعر صرف الدولار إلى 54.05 جنيهًا خلال عام 2026.
هذا الرقم، الذي يُستنتج من بيانات الناتج المحلي الإجمالي، ليس مجرد توقع اقتصادي، بل هو إنذار بكارثة معيشية تلوح في الأفق، ونتاج مباشر لسياسات حكومية أثبتت فشلها في حماية العملة الوطنية وقوت المواطنين.
 

توقعات الصندوق: شهادة على تدهور مستمر
لم يأتِ رقم الـ 54 جنيهًا من فراغ، بل هو حلقة في سلسلة من التدهور المستمر. فبحسب الصندوق نفسه، من المتوقع أن يبلغ متوسط سعر الدولار 51.48 جنيهًا خلال عام 2025.
ورغم أن هذه الأرقام تمثل تحسنًا طفيفًا عن توقعات سابقة، إلا أنها تؤكد أن الاتجاه العام هو انخفاض قيمة الجنيه، وهو ما يعني تآكلًا مستمرًا في القوة الشرائية للمصريين.

إن سياسة التعويم التي انتهجتها الحكومة، والتي قُدمت على أنها "علاج مر" لا بد منه، تحولت إلى جرعات متتالية من السم للاقتصاد والمجتمع.
فالحكومة، وبدلاً من معالجة الأسباب الجذرية للمشكلة والمتمثلة في ضعف الإنتاج المحلي والاعتماد المفرط على الاستيراد، اختارت الطريق الأسهل: الاستدانة من الخارج والانصياع الكامل لوصفات صندوق النقد، التي غالبًا ما تأتي على حساب الفئات الأكثر فقرًا.

النتيجة كانت واضحة، عجز متزايد في الميزان التجاري وصل إلى 51 مليار دولار في العام المالي 2024-2025 بزيادة 29% ، واعتماد خطير على الأموال الساخنة التي تخرج عند أول اهتزاز للاقتصاد العالمي، تاركة الجنيه في مهب الريح.
 

التأثير على الفقراء: طحن تحت رحى الغلاء
عندما يصل الدولار إلى 54 جنيهًا، فإن هذا لا يعني مجرد رقم على شاشات البنوك، بل يعني جحيمًا من الأسعار الملتهبة للطبقات الفقيرة والمتوسطة.
فمصر، كدولة تستورد جزءًا كبيرًا من احتياجاتها الأساسية، ستشهد ارتفاعًا جنونيًا في أسعار كل شيء تقريبًا

  • الغذاء: سترتفع تكلفة استيراد القمح والزيوت والأعلاف، مما سينعكس مباشرة على سعر رغيف الخبز والدواجن واللحوم ومنتجات الألبان.
  • الطاقة: ستزيد فاتورة استيراد الوقود، مما يعني ارتفاع أسعار البنزين والسولار، وبالتالي زيادة تكلفة النقل والمواصلات، وهو ما سيضيف عبئًا جديدًا على كاهل الموظفين والعمال الذين يعتمدون على المواصلات العامة يوميًا.
  • الدواء: يعتمد قطاع كبير من صناعة الدواء في مصر على استيراد المواد الخام، وارتفاع سعر الدولار يعني ارتفاعًا حتميًا في أسعار الأدوية، مما يهدد حياة ملايين المرضى غير القادرين.
  • الصناعة المحلية: حتى المصانع التي تنتج سلعًا محلية ستتأثر، لأنها تعتمد على آلات ومواد خام مستوردة، مما سيجبرها على رفع أسعار منتجاتها النهائية أو تقليص الإنتاج وتسريح العمال.

هذا التضخم المتوحش يضرب الفقراء في مقتل، فهم من ينفقون النسبة الأكبر من دخولهم الضئيلة على الطعام والشراب والاحتياجات الأساسية.
ومع كل جنيه يفقده الجنيه المصري من قيمته، تزداد مساحة الفقر وتتسع دائرة العجز، ويجد الملايين أنفسهم غير قادرين على توفير أبسط متطلبات الحياة الكريمة.
 

سياسات فاشلة وإدارة قاصرة
تقف الحكومة عاجزة أمام هذا الانهيار، بل ومسؤولة عنه بشكل مباشر. فبدلاً من تبني استراتيجية تنموية حقيقية ترتكز على دعم الصناعة المحلية وتشجيع التصدير وتقليل فاتورة الاستيراد، أغرقت البلاد في دوامة من القروض الخارجية التي تستخدم لتمويل مشروعات ضخمة لا تعود بالنفع المباشر على المواطن البسيط، بينما يتم سداد أقساطها وفوائدها من قوته اليومي.

إن الترويج لفوائد انخفاض الجنيه على الصادرات والسياحة يصبح بلا معنى عندما يكون الميزان التجاري في حالة عجز مزمن.
لقد تحولت "الإصلاحات الاقتصادية" إلى غطاء لتمرير سياسات تفقير ممنهج، حيث تُرفع الأعباء عن كاهل المستثمرين والأغنياء لتوضع على ظهور الفقراء والطبقة الوسطى.

كما أن توقع وصول الدولار إلى 54 جنيهًا هو شهادة فشل ذريع لهذه الحكومة في إدارة اقتصاد البلاد وحماية مواطنيها. إنه دليل على أن المسار الحالي لا يؤدي إلا إلى مزيد من التدهور الاقتصادي والاحتقان الاجتماعي.
وما لم تحدث مراجعة شاملة وجذرية للسياسات الاقتصادية، والتحول نحو نموذج تنموي يعطي الأولوية للإنتاج المحلي والعدالة الاجتماعية، فإن فاتورة هذا الفشل ستظل تُدفع من دماء وعرق الفقراء في مصر.