تشير التحليلات والبيانات الواردة من خبراء ومصادر متعددة إلى أن الحكومة المصرية تنتهج سياسة متصاعدة تهدف إلى إعادة توزيع واستغلال الأراضي المطلة على نهر النيل، تحت غطاء التنمية والاستثمار. غير أن هذه السياسة تثير مخاوف متزايدة بشأن آثارها الاجتماعية والبيئية وتهديدها لحقوق المواطنين، خصوصًا في مناطق أراضي طرح النهر والجزر النيلية التي تمثّل مصدر رزق وسكن لعشرات الآلاف من الأسر.
غلق مفيض توشكى... خطوة مثيرة للتساؤلات
من أبرز المؤشرات على هذا التوجّه الحكومي ما أعلنه الخبير المائي الدكتور نادر نور الدين بشأن إغلاق مفيض توشكى منذ سبتمبر 2025. ويقول نور الدين إن القرار جاء في إطار خطة لاستيعاب مياه الفيضان بعد امتلاء بحيرة ناصر، تجنّبًا لمخاطر الفيضان، لكنه في الوقت ذاته يقلّل من قدرة الدولة على التحكم في التصرفات المائية، ويزيد من احتمالات ارتفاع منسوب المياه في مناطق معيّنة على ضفاف النيل.
ويرى خبراء أن إغلاق المفيض لا يمكن فصله عن المخططات الحكومية الخاصة باستغلال الأراضي النيلية، حيث يشير البعض إلى أن الهدف غير المعلن هو إعادة توجيه المياه بما يخدم مشاريع محددة في مناطق بعينها، تمهيدًا لتطويرها أو طرحها للاستثمار. هذه الإجراءات، رغم أن الحكومة تقدّمها باعتبارها “إدارة رشيدة للمياه”، إلا أنها تفتح الباب أمام تساؤلات حول انعكاساتها على المزارعين والمجتمعات المحلية المعتمدة على النيل.
أراضي النهر... من المنفعة العامة إلى المزادات الاستثمارية
في سياق متصل، أعلنت الحكومة المصرية خلال الأشهر الماضية عن طرح أراضي طرح النهر في مزادات علنية تشمل مناطق داخل القاهرة والجيزة ومدن الدلتا، بهدف تخصيصها لمشروعات سياحية واقتصادية. وتشمل المشروعات المقترحة إقامة مراسٍ عائمة ومنتجعات فاخرة على ضفاف النيل.
لكن مراقبين يرون أن هذه الخطوة تنذر بتحوّل الأراضي النيلية من ملكية عامة إلى استثمارات خاصة تفتقر إلى الشفافية في إدارة العوائد أو تحديد المستفيدين الفعليين. كما يخشى كثيرون من أن يؤدّي ذلك إلى حرمان المواطنين من الوصول إلى النهر، وتحويل مجراه إلى واجهات مغلقة تخدم الأغنياء والسائحين فقط، في وقت تتراجع فيه حقوق الصيادين والمزارعين وسكان الجزر.
تكرار سيناريوهات التهجير القسري
أبرز مثال على هذه السياسات يتجسّد في جزيرة الورّاق، حيث تتواصل منذ سنوات حملات الإخلاء التي طالت مئات الأسر تمهيدًا لإقامة مشروع “مدينة حورس” الجديدة. ورغم تصريحات الحكومة بشأن تعويض المتضرّرين، يؤكد سكان الجزيرة ونشطاء حقوقيون أن التعويضات غير عادلة، وأن العديد من الأسر لم تُمنح أي بدائل سكنية.
وتشير هذه الوقائع إلى احتمال تكرار سيناريوهات الطرد الجماعي في جزر أخرى مثل القرصاية والدهب، حيث تسعى الدولة لتحويلها إلى مناطق استثمارية. ويتخوّف السكان من أن تتحوّل هذه المشاريع إلى وسيلة لتهجير الفقراء وإقصائهم من أراضيهم بذريعة “التطوير العمراني”.
سيطرة المؤسسات السيادية على أراضي النيل
يرى خبراء في شؤون الأراضي أن الحكومة تعمل وفق استراتيجية استحواذ ممنهجة، تتمثّل في نقل تبعية إدارة الأراضي النيلية من وزارة الموارد المائية والري إلى جهات سيادية وصندوق مصر السيادي، مما يتيح مرونة أكبر في البيع والتطوير دون رقابة برلمانية أو مجتمعية.
ويؤكد هؤلاء أن هذا التحوّل يكرّس احتكارًا فعليًا للأراضي لصالح مؤسسات تابعة للجيش والمستثمرين الكبار، ويقوّض مبدأ الشفافية والمساءلة. كما أنه يعيد رسم خريطة الملكية على ضفاف النيل، حيث تتحوّل المناطق ذات القيمة الاقتصادية العالية إلى مشاريع مغلقة تخدم أهدافًا تجارية لا تنموية.
بين التنمية والحقوق... الموازنة الغائبة
رغم ما تروّج له الحكومة من أن هذه المشروعات تأتي ضمن رؤية التنمية المستدامة 2030، فإن الوقائع على الأرض تكشف عن غياب التوازن بين التنمية الاقتصادية وحقوق المواطنين. فبينما تسعى الدولة لتعظيم العائد المالي من أراضي النيل، يتم تجاهل الأثر الاجتماعي والبيئي طويل المدى لهذه السياسات.
ويرى محللون أن النيل ليس مجرد مورد مائي، بل شريان حياة يشكّل أساس الهوية المصرية، وأي تغيير في ملكيته أو استخدامه يجب أن يخضع لحوار وطني وقوانين تضمن العدالة في التوزيع والمساءلة في الإدارة.
تُظهر المؤشرات أن الحكومة المصرية تمضي في تنفيذ خطة لإعادة توظيف الأراضي النيلية بما يخدم أهدافًا اقتصادية واستثمارية، لكنها في المقابل تعرّض حقوق السكان واستقرارهم للخطر. ومع استمرار غلق مفيض توشكى وتزايد الطروحات الاستثمارية وحالات التهجير القسري، يزداد القلق من أن يتحوّل النيل من ملكية عامة لكل المصريين إلى أصل تجاري تُدار عوائده بعيدًا عنهم.
وختامًا، فإن الحفاظ على النيل لا يتطلّب فقط إدارة مياهه، بل حماية ضفافه وسكانه، وضمان أن تبقى مشروعات التنمية في خدمته لا على حسابه.