سامح راشد
باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط
تتبدّل تحالفات الدول، وتختلف توجّهاتها في التعاون والصراع، من حين إلى آخر، ما دامت حركتها محكومة بالمصالح ومتغيّرة، لا بأفكار أيديولوجية جامدة أو عقائد ثابتة. ومنذ بدأت الألفية الثالثة، تشهد منطقة الشرق الأوسط تقلبات خطيرة في أوضاع بعض دولها، وانقلابات جذرية في سياسات وتوجّهات دول أخرى. وقد تسارعت وتيرة هذه التحوّلات وتعمّقتْ خطورتها في الأعوام القليلة الماضية. حتى إن المنطقة شهدتْ تحوّلًا مثيرًا في موقف بعض الدول تجاه إسرائيل، من العداء والقطيعة، على الأقلّ ظاهريًا، إلى تطبيع كامل وتعاون وثيق. وكانت لذلك "الانقلاب" على ثوابت عربية وإسلامية، ارتدادات واسعة، وإرباك لموازين القوى في المنطقة. وليست أقلّ من ذلك أهمية تلك التحوّلات الداخلية الجذرية في ليبيا وسورية والسودان واليمن، بين تقويض استقرار الدولة وتفكيك مؤسّساتها وتعويم سياساتها، وتغيير النظام السياسي، والتبعية السياسة الخارجية، ما جعل سياسات تلك الدول وتوجّهاتها تختلف إلى حدّ مناقضة بعضها لما كان في السابق.
خلال الأعوام الثلاثة الماضية، استشعرت بعض دول المنطقة حزمةَ التحوّلات الجارية، والمخططات المتوقّعة للمنطقة، فراحت تُعدّل سياساتها وتعيد ترتيب تحالفاتها ولو تكتيكيًا. مثال ذلك تحويل تركيا دفّة سياستها الإقليمية لتبحث عن التوفيق لا التفوّق. فتنازلت عن مطالب مهمّة من بعض دول الخليج، وتخلّت عن مواقف حادّة في ليبيا وشرقي المتوسّط. فكانت النتيجة المنطقية تصفية الأجواء مع السعودية وتجسير الفجوة مع الإمارات، ثمّ التقارب مع القاهرة. وعلى المنوال ذاته، حدّثت مصر أولويات حركتها الخارجية، استجابةً لتحدّيات قائمة وتهديدات مستجدّة، من سدّ النهضة والانقسام السوداني إلى حرب غزّة والتوتّر في البحر الأحمر. وللاشتراك مع تركيا في تقييم بعض تلك الملفات، حدث التقارب بينهما بعد أعوام من الخلافات والتحرّكات المتعارضة.
وبين هذه وتلك، بدأت العلاقات في نطاق دول مجلس التعاون الخليجي تختلف حساباتها وتتباعد سياساتها. تباعد مصحوب بديناميكية في الحركة وجرأة في الخطاب، مع تحفّظ وحذر في إدارة العلاقات البينية، وتناول القضايا الخليجية عمومًا.
وحاليًا، أصبحت دول الخليج في موقف لا تُحسد عليه، بين انكسار إيران التي لا يُؤمَن جانبها في الضعف كما في القوة، وانفلات إسرائيل المُظلل بغطاء أميركي لا يراعي قواعد ولا حدودًا. من جانبها، ظلت إيران أعوامًا تُصدّر خطاب حُسن الجوار والرغبة في علاقات تعاونية مع دول المنطقة. وبعد انكشافها تمامًا أمام هجمات إسرائيلية أميركية، عمدت إلى تحويل الأقوال أفعالًا، ولو جزئيًا أو مؤقّتًا، فترجمتْ خطابها التودّدي نحو مصر إجراءاتٍ عمليةً تستجيب لبعض مطالب القاهرة.
بسبب طيش إسرائيل وتطرّف حكومتها، وعنجهية ترامب وغروره غير المبرّر، واحتمالات اشتعال المنطقة بمواجهات غير محدودة النطاق، تنشغل معظم دول الخليج العربية بمقتضيات حماية أمنها الوطني. خاصّة بعد صدمة التخلّي عن الدوحة والسماح لإسرائيل باستهداف قادة "حماس" هناك. وبعدما لم يبق من الدول الكبيرة ذات القوة الفعلية في المنطقة سوى مصر وتركيا، وبعدهما إيران، فإن الدول الثلاث مطالبة بتحويل علاقاتها الثنائية، التي بدأت بترميمها أخيرًا، تعاونًا ثلاثيًا منظّمًا ومتعدّدَ المسارات. فمساحات التوافق والقواسم المشتركة بينها أكثر أهمية (وأوسع وأشمل) من نقاط الخلاف وأوجه الاختلاف.
بقليل من الجرأة والتفكير المتحرّر من قيود ذاتية بالأساس، يستطيع هذا الثلاثي تشكيل سياجٍ حامٍ لأركان النظام الإقليمي. بل وبإمكانها لاحقًا تشكيل تحالف إقليمي متعدّد الأطراف وتوسيع عضويته تدريجيًا. وفي حين لا يعني ذلك عداءً لأي طرف، فإن مجرّد التقارب بين الدول الثلاث معًا كفيل بردع هذا الطرف أو ذاك، وهو واجب اللحظة.