تواصل ظاهرة “المستريحين” ضرب المجتمع المصري بقوة خلال السنوات الأخيرة، وسط تساؤلات حادة حول دور الدولة في مواجهة هذه الشبكات، والتسريبات المتداولة عن وجود حماية خفية من بعض المسؤولين والإعلاميين لهؤلاء النصابين.

القضية الأخيرة المعروفة إعلاميًا بـ«مستريح الدواجن» لم تكن مجرد عملية نصب عادية، بل مثال صارخ على حجم الفراغ التشريعي والرقابي في ملف “توظيف الأموال” واستغلال ثقة المواطنين.
فبين وعود وهمية بأرباح ثابتة وغياب رقابة مالية صارمة، تتكرر المأساة بنفس النمط تقريبًا في معظم المحافظات المصرية.
 

المتهم والقبض عليه
الاسم المعروف إعلاميًا هو «مستريح الدواجن»، فيما أشارت البلاغات إلى أن اسمه الكامل هو أ. م. م، مدرس بالأزهر، ويُعرف أحيانًا باسم “شيخ أحمد”. يقيم في مركز أبو كبير بمحافظة الشرقية، وتم القبض عليه بعد تقديم عشرات المواطنين بلاغات ضده.
النيابة قررت حبسه مبدئيًا أربعة أيام على ذمة التحقيقات، مع توجيه اتهامات له بالاستيلاء على أموال المودعين دون وجود نشاط استثماري حقيقي.
 

قيمة المبالغ المُستولى عليها وعدد الضحايا
بحسب البلاغات، استولى المتهم على أكثر من 25 مليون جنيه من المواطنين، بعدما أوهمهم بأنه يستثمر أموالهم في تجارة الدواجن.
عدد الضحايا الذين تقدموا رسميًا ببلاغات بلغ حوالي 40 مواطنًا من مركز أبو كبير، لكن هناك مؤشرات أن العدد الفعلي أكبر بكثير، إذ أحجم بعض الضحايا عن التقدم بشكاوى أملاً في استرداد أموالهم أو الحصول على الأرباح.

من بين الأمثلة المؤلمة، ضحية استثمر مدخراته التي جمعها على مدار سنوات — نحو 330 ألف جنيه — لكنه خسر كل شيء بعد توقف المتهم عن السداد.
 

طبيعة الوعد وآلية الكسب
آلية النصب لم تكن جديدة: وعد المتهم المستثمرين بعوائد ثابتة تصل إلى 5 آلاف جنيه عن كل 100 ألف جنيه يتم استثمارها.
بالفعل كان يدفع جزءًا من الأرباح في البداية لطمأنة الضحايا، قبل أن يتوقف عن السداد ويعجز عن ردّ رأس المال.

التحريات كشفت أنه لم يكن هناك أي نشاط تجاري فعلي، وإنما مجرد عملية “توظيف أموال وهمية” تعتمد على تدفق مبالغ جديدة لتغطية التزامات قديمة.
 

الملاحقة القانونية والتحقيقات
مديرية أمن الشرقية باشرت التحقيقات بعد تلقي البلاغات، والنيابة العامة تولّت القضية وحررت المحاضر اللازمة.
المتهم حُبس احتياطيًا، لكن التساؤلات الكبرى بقيت قائمة: لماذا لم تُكشف هذه الأنشطة في بدايتها؟ وكيف تمكّن “مستريح الدواجن” من جمع ملايين الجنيهات دون أي رقابة أو تدخل مبكر من الجهات المعنية؟
 

تساؤلات حول دور الحكومة والفراغ التشريعي
القضية تعيد للأذهان ثغرات التشريعات المصرية المتعلقة بتوظيف الأموال.
صحيح أن قانون العقوبات وقانون مكافحة غسل الأموال يتيحان معاقبة الجناة بعد وقوع الجريمة، لكن لا توجد آليات وقائية صارمة تمنع ظهور مثل هذه الكيانات.
مراقبون يرون أن غياب الرقابة على الأنشطة غير المرخصة، والتأخر في كشف شبكات النصب، يطرحان شبهة حماية أو تستر من أطراف نافذة، أو على الأقل يعكسان ضعفًا إداريًا مزمنًا.
 

ارتفاع الظاهرة مؤخرًا
“مستريح الدواجن” لم يكن استثناءً. خلال السنوات الماضية، ظهرت عشرات القضايا المشابهة في مختلف المحافظات.
تقارير صحفية أحصت نحو 22 “مستريحًا” متهمًا في أنحاء الجمهورية، استولوا على أكثر من 3 مليارات و192 مليون جنيه من أموال المواطنين. بعضهم نصب على مئات الأشخاص، وآخرون كوّنوا شبكات معقدة أو جمعيات وهمية.
 

من مستريح الشرقية إلى مستريح الإسكندرية: بعض أشهر القضايا والتواريخ

  • أحمد مصطفى (“أحمد المستريح”) — الصعيد: من أوائل القضايا المعروفة؛ اتُهم بالنصب والاستيلاء على ما يزيد على 30 مليون جنيه من مواطنين، وقيل إنه حُكم عليه بالسجن لعدة سنوات.
  • مستريح أسوان (“مصطفى” وآخرون) — أسوان: قضية كبيرة في الصعيد يُذكر أنها شملت عمليات نصب جماعية استحوذت على مبالغ تُقدّر بمئات الملايين، وتم القبض على عدد من المتهمين.
  • مستريح المنوفية — المنوفية: جمع نحو 200 مليون جنيه من الأهالي بوعد أرباح شهرية كبيرة، قبل أن تنكشف عمليته ويُحال للتحقيق.
  • مستريح السويس — السويس: موظف بشركة خاصة استولى على حوالي 40 مليون جنيه بحجة الاستثمار العقاري والسياحي.
  • مستريح الإسكندرية — الإسكندرية: تضمنت قضاياه جمع نحو 26 مليون جنيه من أكثر من 100 مواطن في منطقة العوايد، إضافة إلى قضايا أخرى بمبالغ بلغت عشرات الملايين.
     

آراء خبراء
الدكتور محمد الفقي (خبير اقتصادي): أوضح في تصريحات سابقة أن انتشار ظاهرة “المستريحين” يعكس خللاً في الثقافة المالية لدى المواطنين، حيث يسعى كثيرون وراء وعود الثراء السريع دون أن يتحققوا من جدية المشروعات أو الضمانات القانونية.
المستشار هشام رجب (خبير في التشريعات الاقتصادية): أشار إلى أن القوانين الحالية غير كافية، فهي تتيح العقاب بعد وقوع الجريمة لكنها لا تضع إطارًا وقائيًا ينظم نشاط توظيف الأموال أو يفرض تراخيص على الجهات التي تجمع مدخرات المواطنين. ويرى أن غياب هذا التنظيم يمنح النصابين مساحة واسعة للتحرك بحرية.
الدكتور مدحت نافع (خبير اقتصادي): أكد أن الحل لا يقتصر على العقوبات، بل يتطلب تعزيز دور البنك المركزي وهيئة الرقابة المالية في متابعة أي نشاط يزعم توظيف الأموال خارج الإطار المصرفي. وأضاف أن تقنين هذا النشاط ووضعه تحت إشراف مالي مباشر سيمنع تكرار الظاهرة ويحمي أموال المواطنين.

وختاما فقضية “مستريح الدواجن” ليست حادثة معزولة، بل حلقة جديدة في مسلسل طويل من النصب الجماعي الذي يضرب المجتمع المصري.
وبينما يستمر المواطنون في دفع ثمن الثقة العمياء في وعود الأرباح الوهمية، تبقى الأسئلة مفتوحة: إلى متى يستمر غياب الرقابة والتشريعات الرادعة؟ وهل ستشهد مصر أخيرًا إصلاحًا حقيقيًا يحمي مدخرات البسطاء من جشع “المستريحين”؟