في خطوة جديدة على طريق تعزيز الدور الفرنسي في الجهود الدولية لإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن إجرائه اتصالين هاتفيين مع رئيسي وزراء أستراليا ونيوزيلندا، حيث أكد أن الدول الثلاث تتقاسم "الالتزام المشترك" بالإفراج الفوري عن الرهائن المحتجزين في قطاع غزة، وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق، ودعم حل سياسي دائم يقوم على مبدأ "حل الدولتين".

 

خلفية الاتصالات الدبلوماسية: موقف فرنسي متماسك

الاتصالات الهاتفية التي أجراها ماكرون، والتي أعلن عنها رسميًا في بيان صادر عن قصر الإليزيه، تأتي ضمن سلسلة من التحركات الدبلوماسية التي تقودها فرنسا منذ تصاعد المواجهات في غزة عقب 7 أكتوبر 2023.

ويشير البيان إلى أن الرئيس الفرنسي أعرب عن تقديره لما وصفه بـ"الدور البنّاء" الذي تلعبه كل من أستراليا ونيوزيلندا، وخصوصًا فيما يتعلق بـ"نداء نيويورك"، وهو إعلان سياسي متزايد الدعم من عدد من الدول يسعى إلى تأكيد ضرورة تطبيق حل الدولتين كإطار نهائي للنزاع.

 

مضمون الاتصالات الثلاثية: رسائل سياسية متعددة الأبعاد

الرئيس الفرنسي شدد في اتصاله مع رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيزي ورئيس الوزراء النيوزيلندي كريستوفر لوكسون على عدة نقاط رئيسية:

  • ضرورة الإفراج الفوري وغير المشروط عن الرهائن المحتجزين في قطاع غزة.
  • تعزيز إيصال المساعدات الإنسانية إلى القطاع، مشددًا على أن "الأولوية القصوى" هي حماية المدنيين وضمان احتياجاتهم الأساسية.
  • ضرورة العمل المشترك نحو حل سياسي عادل ودائم للنزاع، يقوم على إقامة دولتين تعيشان جنبًا إلى جنب في سلام وأمن.

وبحسب ما جاء في البيان الرسمي، فإن هذه الاتصالات تؤكد أن هناك "رؤية مشتركة" بين الدول الثلاث بشأن مبادئ التعامل مع الأزمة، بعيدًا عن الاستقطاب السياسي أو التصعيد العسكري.

 

"نداء نيويورك": ما هو؟ ولماذا يهم الآن؟

"نداء نيويورك" هو مبادرة دبلوماسية نشأت في أروقة الأمم المتحدة خلال الأسابيع الأولى من عام 2024، عندما اقترحت فرنسا – بدعم من دول أوروبية وآسيوية – العودة إلى خارطة الطريق الدولية التي تؤسس لقيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967، إلى جانب إسرائيل، ضمن تسوية سياسية نهائية.

وقد تبنّت هذه المبادرة بشكل صريح دول مثل إسبانيا، النرويج، أيرلندا، والآن أستراليا ونيوزيلندا، بحسب بيان الإليزيه.

ويهدف هذا النداء إلى توفير غطاء سياسي دولي لإعادة إطلاق المفاوضات السياسية المتوقفة منذ سنوات، في ظل ما وصفه ماكرون سابقًا بـ"الفشل الجماعي في وقف العنف وإيجاد أفق سياسي للسلام".

 

فرنسا ومؤتمر "حل الدولتين" المقبل في نيويورك

أحد أبرز مخرجات هذه الاتصالات كان تأكيد ماكرون على سعي بلاده لتنظيم مؤتمر دولي موسع حول حل الدولتين، بالتزامن مع انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر المقبل.

المؤتمر المزمع يحمل طموحًا لتكرار تأثير "مؤتمر مدريد" عام 1991 أو "محادثات أنابوليس" عام 2007، ولكن هذه المرة بظروف أكثر تعقيدًا، مع وجود واقع إقليمي مضطرب وغموض سياسي داخلي في إسرائيل.

فرنسا، وفق مصادر دبلوماسية، تُنسق حاليًا مع دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ومصر والأردن لتهيئة الظروف اللازمة لإنجاح المؤتمر، مع التركيز على ثلاث نقاط:

  • استصدار دعم دولي لإقامة الدولة الفلسطينية.
  • إطلاق إجراءات بناء الثقة بين الطرفين.
  • توفير ضمانات أمنية وإقليمية لمنع تكرار موجات العنف.

 

ردود فعل مبدئية ودلالات سياسية

لم تصدر حتى الآن ردود فعل رسمية من الحكومة الإسرائيلية على تحركات ماكرون الأخيرة، لكن أوساطًا مقربة من الحكومة وصفت في تصريحات غير رسمية لـصحف إسرائيلية التحركات الفرنسية بأنها "رمزية ولن تؤثر على الواقع الميداني ما لم تكن مدعومة من واشنطن".

من جهته، رحّب الجانب الفلسطيني، بما في ذلك السلطة الوطنية في رام الله، بهذه المبادرة، واعتبرها خطوة ضرورية "لتحريك المياه الراكدة في المسار السياسي"، على حد وصف المتحدث الرسمي باسم الخارجية الفلسطينية.

أما في الأمم المتحدة، فقد أعرب عدد من المندوبين، لا سيما من دول عدم الانحياز وأميركا اللاتينية، عن دعمهم لمثل هذا المسعى، مشيرين إلى أن الوضع الإنساني في غزة "بلغ حدودًا لا يمكن السكوت عنها"، وأن المجتمع الدولي "بات مطالبًا بتحرك سياسي فعلي، لا بيانات شجب فقط".

 

عقبات سياسية محتملة أمام المؤتمر المرتقب

رغم ما يبدو من زخم سياسي خلف الجهود الفرنسية، إلا أن المؤتمر يواجه عدة تحديات حقيقية، من أبرزها:

  • رفض بعض الأطراف الفاعلة للمشاركة في إطار دولي دون ضمانات أمنية مسبقة.
  • الموقف الأميركي المتذبذب في ظل انشغال واشنطن بالانتخابات الرئاسية.
  • الانقسام الفلسطيني الداخلي بين حركتي فتح وحماس.
  • المعارضة الشديدة داخل الحكومة الإسرائيلية الحالية لأي حديث عن "دولة فلسطينية".

لكن باريس تراهن على أن الزخم الدولي المتولد من تردي الأوضاع الإنسانية قد يدفع باتجاه تغيير في الخطاب العام، وهو ما يمكن أن يخلق "فرصة سياسية جديدة"، كما وصفها ماكرون في لقاء سابق مع الصحافة الفرنسية.

 

فرنسا في دور الوسيط: من المبادرة إلى الضغط الناعم

منذ اندلاع الحرب الأخيرة في غزة، حاولت فرنسا لعب دور الوسيط النشط، فإلى جانب ماكرون، تحركت وزارة الخارجية الفرنسية على مستويات متعددة في مجلس الأمن، ودفعت في اتجاه قرارات لوقف إطلاق النار والسماح بدخول المساعدات.

ومع التحضير لمؤتمر "حل الدولتين"، تسعى فرنسا إلى تحويل موقعها من "صوت دبلوماسي" إلى "فاعل محوري" في إدارة الصراع السياسي"، بما يعكس دورها التقليدي في قضايا الشرق الأوسط منذ عهد شارل ديغول، الذي لطالما تبنّى رؤية متوازنة إزاء الصراع العربي الإسرائيلي.

 

هل ينجح ماكرون ؟

رغم التحديات، يرى مراقبون أن ماكرون يعوّل على ما يسمى بـ"اللحظة الدولية"، حيث الضغوط الإنسانية والسياسية والانتقادات المتصاعدة للمسار الحالي قد تخلق نوافذ للحوار.

وإن نجحت فرنسا في جمع الفاعلين الأساسيين حول طاولة حوار حقيقية، فإن مؤتمر نيويورك قد يشكل خطوة أولى – وربما نادرة – نحو مسار دبلوماسي يُعيد للقضية الفلسطينية مكانتها على جدول الأعمال الدولي.

لكن يبقى السؤال: هل تسمح الوقائع الميدانية والسياسات الحالية بمثل هذا التحول؟ أم أن المبادرة ستنضم إلى أرشيف المحاولات غير المكتملة في مسيرة السلام؟ الأيام وحدها ستكشف ذلك.