قبل أيام من اندلاع الحريق الكارثي في مبنى سنترال رمسيس وسط القاهرة، كانت تقارير رقابية صادرة عن الجهاز المركزي للمحاسبات تُنذر بمخالفات متراكمة داخل الشركة المصرية للاتصالات، الهيئة الحكومية التي تحتكر البنية التحتية للاتصالات الأرضية وخدمات الإنترنت في البلاد منذ عام 1998.
الحريق الذي اندلع في أحد أهم مراكز الاتصالات في مصر، المكوّن من 11 طابقًا، لم يكن مجرد حادث عرضي، بل شكّل تتويجًا مأساويًا لسلسلة طويلة من المخالفات والإهمال الإداري والمالي.
وقد سلط الحادث الضوء على هشاشة البنية التحتية لقطاع حيوي، يتوقف عليه نحو 40% من حركة الاتصالات المحلية والدولية، كما أكد مهندس الاتصالات تامر محمد، سكرتير شعبة الاتصالات في اتحاد الغرف التجارية.
في حديثه لقناة "الحدث اليوم"، قال محمد: "مع كامل الاحترام للتصريحات الرسمية، الواقع الذي رأيناه بأعيننا لا يعكس ما يُقال بأن السنترال هو مجرد جزء صغير من منظومة متكاملة؛ بل بدا وكأنه العمود الفقري الفعلي للبنية التحتية في البلاد."
الحريق الذي نشب صباح الاثنين الماضي، أسفر عن مصرع أربعة من العاملين، وإصابة 32 آخرين، إلى جانب تعطل واسع النطاق في خدمات الإنترنت والمحمول والمصارف الإلكترونية، امتد تأثيره لأيام وأثر على قطاعات مختلفة في الدولة، من البنوك إلى شبكات الكهرباء والتحويلات البنكية والطيران والقطارات.
مخالفات مالية وهيكلية منذ 2016
بحسب ما كشفه موقع متصدقش نقلاً عن تقارير رسمية اطلع عليها، فقد تجاهلت إدارة الشركة ملاحظات الجهاز المركزي للمحاسبات على مدار عدة سنوات، أبرزها الاستمرار في تشغيل أصول ثابتة انتهى عمرها الإنتاجي منذ سنوات، دون مراجعة أو إحلال. وقدرت قيمة هذه الأصول بنحو 14.1 مليار جنيه، وهي لا تزال مدرجة ضمن قوائم التشغيل دون أي تحديث منذ عامي 2016 و2018.
وفي تقارير مراجعة صدرت حتى مارس 2025، وجّه الجهاز المركزي للمحاسبات تحذيرات صارمة بخصوص عدم إجراء المراجعة الدورية المطلوبة لعمر الكوابل ومكونات البنية التحتية، مخالفة بذلك معيار المحاسبة المصري رقم 10، وهي مخالفة لها تأثير مباشر على الكفاءة الفنية والأمان التشغيلي للشبكة.
من بين المخالفات التي وصفها الخبراء بـ"الخطيرة"، احتفظت الشركة بمعدات تالفة في محافظتي المنوفية والقليوبية دون شطبها محاسبيًا، إلى جانب عدم تحويل أجهزة تشغيل مركزية بقيمة 58 مليون جنيه، تم تركيبها داخل سنترال رمسيس، إلى بند "الأصول الثابتة"، ما أخرجها من دائرة الصيانة والرقابة الدورية.
أصول غير مستغلة ومديونيات غامضة
كما سجّلت التقارير وجود أصول جديدة غير مُستغلة بقيمة 4.1 مليار جنيه، من بينها كوابل دولية غير مستخدمة ومسارات نحاسية تالفة. ولم يتم تقييم جدوى استمرار تسجيلها ضمن دفاتر الشركة، رغم عدم الاستفادة منها منذ سنوات.
في سياق موازٍ، رصدت الأجهزة الرقابية مشكلات حادة في تسوية العقود والتوريدات. فقد قامت الشركة بتوريدات إلى جهات سيادية ومدنية، منها جهاز مشروعات الخدمة الوطنية التابع للقوات المسلحة، وتحالف "ابدأ"، وهي مبادرة رئاسية لدعم الصناعة، دون وجود مستندات رسمية تثبت استلام البضائع أو تسويتها محاسبيًا.
بلغ إجمالي المديونيات غير المسواة نحو 222.7 مليون جنيه، بينها شيكات غير مؤكدة الاستلام، ما يثير تساؤلات حول إدارة العقود وغياب الشفافية في الإجراءات المالية داخل شركة تملك الحكومة 70% من أسهمها.
استثمارات خاسرة بلا مراجعة
على صعيد الاستثمار، أنفقت المصرية للاتصالات نحو 39.65 مليون جنيه في خمس شركات لم تحقق عائدًا يُذكر، ما تسبب في خسائر مباشرة بقيمة 34.2 مليون جنيه، رغم توصيات سابقة من الجهاز المركزي للمحاسبات بضرورة إعادة التقييم أو التخارج من تلك الشركات.
تحذيرات سابقة من الانهيار
في عام 2019، حذّر تقرير صادر عن البنك الدولي من مخاطر تركيز خدمات الاتصالات في نقطة مركزية واحدة، وهو ما كرّرته تقارير تكنولوجية دولية، مثل تقرير Wired الذي نُشر في فبراير من العام نفسه، وسلط الضوء على قدرة السلطات على "قطع الإنترنت" بالكامل خلال ثورة 25 يناير 2011، بسبب هذه المركزية.
ورغم أن الجهاز المركزي للمحاسبات لا يملك صلاحيات تنفيذية، إلا أن تكرار التحذيرات دون استجابة يعكس خللًا خطيرًا في الرقابة المؤسسية. وقد اعتبر خبراء اقتصاديون أن ما حدث في سنترال رمسيس هو "نتيجة منطقية لفشل إداري ممتد، وغياب للمساءلة الحقيقية".