في حين أن سنترال رمسيس يحوي أجهزة تقدر قيمتها بمليارات، وكان يفترض أن تكون محمية بأنظمة تبريد وتجفيف ذاتي، فقد دمرت الحرارة ما لا يقل عن نصف الكابلات داخل السنترال، تساءل مختصين عن سبب غياب الأنظمة التي يفترض أن تعمل بصورة تلقائية في حالات الطوارئ، مطالبين بمحاسبة المسئولين ومحاكمتهم على إهدار تلك المليارات.

ساعات ثقيلة قضاها الشعب المصري في عزلة تامة عن العالم، على خلفية الحريق الذي نشب  في سنترال رمسيس وسط القاهرة، وما أعقبه من توقف مفاجئ لخدمات الاتصالات والإنترنت في عموم البلاد، ليصبحوا للمرة الأولى في خلال الأعوام السابقة التي يدركون أنه من دون أدوات رقمية لا يستطيعون  إنجاز شيء.

فلم يعد يستطيع المواطنون الاطمئنان على ذويهم أثناء الانقطاع، وحتى الهاتف الأرضي كان خارج الخدمة، ليجدوا  أنفسهم عاجزين عن تلبية احتياجاتم لاعتمادهم الكامل على البطاقة الائتمانية وتطبيقات الدفع الإلكتروني.

وعاش ملايين من المستخدمين المصريين الذين فوجئوا بانقطاع مفاجئ للخدمات الإلكترونية في فراغ عقلي كامل، وسط تساؤلات فرضت نفسها مع اتساع نطاق الأعطال وامتدادها إلى محافظات مختلفة من أبرزها، هل كانت توجد نسخة احتياطة للبنية التحتية الرقمية تضمن استمرار الخدمات في حالات الطوارئ؟ ما المنطق في ترك خدمة أساس عرضة للتوقف الكامل نتيجة الاعتماد على نقطة مركزية دون بدائل؟ وأين التحول الرقمي الذي تحدث عنه المسؤولون مراراً؟

 

تعطل عقل مصر

من جهته يرى خبير الإنترنت وتكنولوجيا المعلومات رامي المليجي من بداية فكرة سنترال رمسيس، الذي افتتح للمرة الأولى خلال مايو 1927، إذ يقول إن السنترال كان مركزياً منذ إنشائه على يد الإنجليز، وظل المبنى حتى اليوم يحتفظ بدوره المركزي إذ يضم جميع خطوط الهاتف في مصر إضافة إلى التحويلات، وظلت السنترالات التي أنشئت لاحقاً مرتبطة به على أساس أنه يضم البوابات الدولية التي تمر عبرها خطوط الاتصال بين مصر والعالم.

ووفق المليجي ظل سنترال رمسيس مركزياً حتى بعد دخول خدمات الهاتف المحمول والإنترنت ، والأرقام المختصرة الخاصة بالطوارئ مثل الإسعاف والنجدة وكذلك الأرقام المرتبطة بالشركات تمر دوائرها عبر السنترال نفسه،و يقول إنه على رغم أن المبنى تجاوز 90 عاماً على إنشائه فإنه لا يزال يمثل القلب الفعلي والعقل للبنية التحتية لقطاع الاتصالات في مصر.

وأوضح أن المسار الرئيسي ما زال يمر عبر سنترال رمسيس بما في ذلك الكابلات البحرية والبوابات الرئيسة للإنترنت، وهو ما يجعل أي عطل فيه مؤثراً على الخدمة في عموم البلاد.

وحول أسباب تعطل الخدمات الإلكترونية على نطاق واسع يرى المليجي أن المسارات البديلة لم تستخدم بفاعلية بعد الحريق لأسباب عدة، فهذه المسارات تخضع لأنظمة تأمين ومعايير خاصة بالأمن القومي، وتحويل الحركة إليها يتطلب إجراءات فنية وأمنية تحسباً لوقوع أية عملية لاختراق المسارات البديلة. لذلك تأخر التحويل، في ظل تفضيل التعامل مع الوضع بصورة يدوية. والدليل أن السنترال خرج من الخدمة لكن الاتصالات لم تنقطع كلياً.

ويؤكد أن التحويل إلى المسارات البديلة جرى فعلاً، لكن الحادثة أظهرت أن هذه المسارات لا تملك كفاءة المسار الرئيس، إذ حدثت اختناقات نتيجة الضغط الزائد مما أدى إلى بطء ملحوظ في الخدمة داخل مناطق مختلفة من البلاد، موضحاً أن بوابات الإنترنت والخدمة الصوتية تعتمد على سنترال رمسيس وتعطل إحداهما يؤدي تلقائياً إلى تأثير في الأخرى، وهو ما وقع فعلياً بعد الحريق.

ويعتقد المليجي أن اندلاع حريق في منشأة مركزية للاتصالات بهذا الحجم يعود تأسيسها إلى قرابة قرن أمر غير متوقع، خصوصاً في ظل أعمال التطوير المستمرة التي شهدها المبنى في أنظمة مكافحة الحرائق والدفاع المدني.


كارثة اقتصادية حقيقية

ويرى أن ما حدث كارثة اقتصادية حقيقية، نظراً إلى ما أعقبه من تعطل في البورصة وتأثر خدمات التحويلات المالية، وتوقف شركات تعتمد على البنية التحتية الرقمية. مشيراً إلى أن التجهيزات داخل المبنى تقدر بمليارات الجنيهات، ستضطر الدولة إلى تعويضها من خلال الشراء مجدداً من الخارج وبالعملة الصعبة. معتبراً أن الحادثة تؤكد أهمية الإسراع في تنفيذ التحول الرقمي الذي تعمل عليه الدولة منذ أعوام من خلال إنشاء مراكز لتوزيع الشبكة، أبرزها المركز الموجود في العاصمة الإدارية.


تصريحات وتباهي مزيف

خلال يوليو 2019، صرح عبدالفتاح السيسي بأن الدولة أنشأت مقراً آمناً وسرياً تحت الأرض على عمق 14 متراً في العاصمة الإدارية الجديدة، لحفظ قواعد البيانات والخوادم الخاصة بالوزارات والهيئات الحكومية، مشيراً إلى أن المشروع يمثل عقل مصر الرقمي ويعمل بالتبادل مع موقع آخر قريب، وبلغت كلفته نحو 25 مليار جنيه وجرى تجهيزه ضمن خطة الانتقال إلى العاصمة الجديدة.

وبحسب ما أعلنه وزير الاتصالات المصري عمرو طلعت في تصريحات تلفزيونية، فإن سنترال رمسيس لم يعد صالحاً حالياً لحين الانتهاء من التبريد والتأكد من إخماد الحريق بالكامل. موضحاً أنه على رغم تعطل خدمات الإنترنت والاتصالات، فإن معظم خدمات البنوك عادت للعمل، ومن المقرر استئناف الخدمة بصورة كاملة داخل المؤسسات المصرفية صباح اليوم الأربعاء.

ويرى إسلام ثروت الأستاذ المساعد بكلية تكنولوجيا المعلومات وعلوم الحاسب بجامعة النيل أن السيسي أسرف في التباهي لكن ما يُعرف بالتحول الرقمي في مصر لا يزال صورياً، ولم يتجاوز مستوى "الميكنة".

 ويوضح أن الجهات المختلفة ما زالت تعتمد على الأدوات نفسها التي استخدمت عقوداً، دون تغيير جذري في البنية الرقمية.


لم ندخل مرحلة التحول الرقمي بعد

وفي حين أرجعت الحكومة سبب العطل إلى اشتعال أحد الأجهزة داخل غرفة الخوادم، يؤكد ثروت أن التحول الرقمي الحقيقي لا يتحقق إلا بالتخلي الكامل عن الأنظمة التقليدية، واعتماد تكنولوجيات ناشئة مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية والواقع الافتراضي وإنترنت الأشياء وسلاسل الكتل. ويضيف "طالما لا نستخدم هذه الأدوات، فلا يمكن القول إننا دخلنا مرحلة التحول الرقمي".

يربط خبير تكنولوجيا المعلومات بين ما حدث في سنترال رمسيس وغياب بنية رقمية احترافية.

 ويقول " إن سنترالات مصر متصلة بصورة مباشرة بسنترال رمسيس، وفي أوائل الألفية الثانية، شهد إنشاء مركز تبادل إنترنت إقليمي، وتحول فعلياً إلى نقطة تجميع رئيسة للإنترنت في مصر. كاشفاً عن أن عدم انقطاع الخدمة بالكامل بعد الحريق يشير إلى وجود نسخة احتياطة لكنها لم تكن مفعلة بصورة احترافية، وهو ما تسبب في عودة الخدمة بصورة جزئية وعشوائية في بعض المناطق.

وحول الأخطاء التي أظهرها الحريق ذكر أن ما كان يفترض حدوثه هو اختبار فعلي للنسخ الاحتياطة من خلال وقف الخدمة في سنترال رمسيس لساعات محددة خلال أوقات سابقة، كما تفعل البنوك وتطبيقات الدفع الإلكتروني بهدف قياس مدى الجاهزية. لكن ما جرى كشف عن غياب خطط منتظمة لاختبار أنظمة النسخ الاحتياطة. وقال "لا توجد اختبارات دورية، ولو كانت تُجرى بانتظام لما تعطلت الخدمة بهذه الطريقة".

وفي ما يتعلق بالتأثير الواسع للحريق، أوضح أن السنترالات الإقليمية تعتمد في اتصالها بالقاهرة على سنترال رمسيس وتزويدها بالإنترنت يجري من خلاله، والربط بين شبكات الاتصالات المختلفة يمر جميعه عبره.

وأضاف أن النظام الرئيس لمعظم تطبيقات الدفع الإلكتروني يُدار من داخل سنترال رمسيس، متسائلاً كيف تجمع كل هذه الخدمات في مبنى واحد قديم ومتهالك وفي موقع مزدحم مثل رمسيس، وهو أمر لا يمكن تخيله من وجهة نظره.

قصور وإهمال

وتساءل مختصون عن مدى جاهزية خطط إدارة الأزمات "ماذا لو وقع زلزال أو هجوم إرهابي وأخرج السنترال من الخدمة بالكامل؟ هل تتوقف الدولة رقمياً؟ وأين البدائل؟"، مشيراً إلى أن المبنى يحوي أجهزة تقدر قيمتها بمليارات، وكان يفترض أن تكون محمية بأنظمة تبريد وتجفيف ذاتي، لكنه يرجح أن الحرارة دمرت ما لا يقل عن نصف الكابلات داخل السنترال. مضيفاً أن النظام الآلي للحماية لم يعمل، متسائلاً عن السبب في ذلك، ولماذا غابت الأنظمة التي يفترض أن تعمل بصورة تلقائية في حالات الطوارئ؟

في حين لا يغفل أستاذ التخطيط الإقليمي والعمراني بجامعة القاهرة أحمد يسري أن المسألة تتطلب تحديث جميع الأنظمة، وسنترال رمسيس كان يجب أن يحوي نظاماً متطوراً لمكافحة الحريق والحماية من التعرض لأي هجوم، باعتباره يمثل قلب شبكة الاتصالات المصرية، مؤكداً أن الحادثة أظهرت مدى القصور في هذه الاحتياطات.

ويعد يسري أن وجود نسخة احتياطة فعالة كان ضرورياً حتى لا تتأثر الخدمات بهذه الصورة، والاهتمام بتطويرها كان أمراً طبيعياً. منتقداً استمرار الاعتماد على هذه المركزية، إذ من غير المنطقي أن يتسبب عطل واحد في توقف واسع للخدمة. ويشير إلى أن عملية التخطيط كان يفترض أن تشمل أيضاً نقل هذه الشبكات إلى مناطق أحدث في شرق وغرب القاهرة، إذ تكون إمكانات التطوير أعلى في المدن الجديدة، مؤكداً أن البدء من الأطراف ينسجم مع استراتيجية الدولة التي تستهدف جعل العمران في مصر ذكياً ومستداماً، والتحول الرقمي جزء من هذه المنظومة بما يشمل القطاعات الخدمية والتخطيط الرقمي، إذ تكون الجاهزية أعلى لتنفيذ هذا التحول.