تتكرر في مصر بين الحين والآخر ظاهرة ما يُعرف شعبيًا بـ"المستريح"، وهي التسمية التي أُطلقت على الأشخاص الذين يمارسون النصب الجماعي على المواطنين عبر جمع الأموال منهم بزعم استثمارها في أنشطة تجارية أو عقارية مقابل أرباح خيالية، ثم يختفون أو يُلقى القبض عليهم بعد سقوط ضحايا بالمئات أو الآلاف.

ورغم مرور أكثر من عقد على بروز أولى هذه الظواهر علنًا، فإن حكومة السيسي لم تُقدّم حتى الآن حلًا جذريًا، بل تكتفي بالتعامل الأمني بعد تفاقم الكارثة، فما الأسباب وراء استفحال هذه الظاهرة؟ وما آخر حلقاتها؟ ولماذا تغيب المعالجات الجادة في ظل نظام يزعم الاستقرار ويعاني في المقابل من انهيار اقتصادي وثقة مفقودة بين المواطن والدولة؟
 

من هو "المستريح"؟
   
مصطلح "المستريح" أُطلق لأول مرة على أحمد مصطفى، الذي ظهر في صعيد مصر عام 2015، وجمع نحو مليار جنيه من المواطنين في محافظة سوهاج، قبل أن يُقبض عليه، الاسم أصبح لاحقًا وصفًا شائعًا لأي نصاب يجمع الأموال من المواطنين بطريقة غير قانونية بزعم تحقيق أرباح سريعة.
 

لماذا يتكرر ظهور "المستريحين"؟
   
يرى الخبير الاقتصادي د. علاء السيد أن تكرار الظاهرة يعكس فقدان الثقة في النظام المصرفي ومؤسسات الدولة، إذ "لم يعد المواطن يثق في البنوك التي تضع فوائد بالكاد تواكب التضخم، ولا في الحكومة التي تتجاهل شكاواه، لذا يلجأ إلى فرص استثمار وهمية تقدمها له شخصيات محلية تُجيد مخاطبة احتياجاته".

كما تشير الباحثة الاقتصادية هدى عبد الغني إلى أن "الفقر وغياب البدائل الاستثمارية، لا سيما في الصعيد والدلتا، وارتفاع معدلات البطالة، كلها توفر بيئة خصبة لتكرار عمليات النصب، في ظل تجاهل حكومي شبه تام".
 

آخر الحلقات.. مستريح بني سويف
   في يونيو 2025، تداولت وسائل الإعلام أنباء عن مستريح جديد في محافظة بني سويف جمع ما يزيد عن 250 مليون جنيه من الأهالي، مدعيًا استثمارها في الأراضي الزراعية وبيع الآلات الثقيلة، وتشير البلاغات الرسمية إلى أن عدد الضحايا تخطى 700 مواطن.

وأفاد عدد منهم في مداخلات تلفزيونية أن الرجل كان يصرف أرباحًا في البداية بشكل منتظم، ما شجع كثيرين على بيع ممتلكاتهم وحتى أراضيهم الزراعية للاستثمار معه.

المثير أن هذا المستريح، وفق رواية الأهالي، كان يتحرك علنًا ويظهر في حفلات ومناسبات عامة، دون أي تدخل من الأمن، رغم تداول اسمه محليًا كجامع أموال منذ أكثر من عام.
 

فشل حكومي مزمن.. وإجراءات شكلية
   
ورغم تكرار الظاهرة، فإن حكومة الانقلاب بقيادة عبد الفتاح السيسي تكتفي بالتعامل مع كل حالة باعتبارها حدثًا فرديًا، دون مراجعة للأسباب الهيكلية وراء انتشارها، فقد أعلن وزير الداخلية اللواء محمود توفيق، في تصريحات مقتضبة، أن الأجهزة الأمنية تتعامل بحسم مع قضايا "المستريحين"، دون أي إشارة لسياسات وقائية.

ويؤكد المحامي والناشط الحقوقي خالد المصري أن "الحكومة تتعامل مع الضحايا كأشخاص طماعين وقعوا في فخ الجشع، دون أن تعترف بمسؤوليتها عن فشلها في توفير استثمارات آمنة أو في التوعية أو الرقابة المجتمعية".

أما تقرير لمركز "الحق في العدالة الاقتصادية" (2024)، فقد أشار إلى أن نحو 38% من حالات النصب الجماعي في السنوات العشر الأخيرة حدثت في المناطق الأكثر فقرًا، وخاصة الصعيد، حيث تقل فرص التوظيف وتنعدم البدائل الاقتصادية.

وأضاف التقرير أن "البيئة القانونية الحالية لا توفر حماية فعلية للمواطن، ولا تحاسب المسؤولين المحليين الذين يتقاعسون عن رصد هذه الظواهر منذ بدايتها".
 

من المستفيد من تكرار الظاهرة؟
   
يذهب بعض المحللين إلى أن تفشي هذه الظواهر ليس مجرد فشل إداري، بل أداة لامتصاص سيولة المواطنين بطريقة غير مباشرة، ويرى الباحث السياسي أحمد عبد القادر أن "صمت الدولة في حالات المستريحين يحمل شبهات تواطؤ، لا سيما حين ترتبط بعض الأسماء بأجهزة أمنية أو تحظى بحماية لسنوات قبل سقوطها".

كما أن بعض المستريحين، مثل حالة "مستريح أسوان" عام 2022، كانوا يمتلكون شركات وهمية مرخصة، وهو ما يثير تساؤلات عن الجهات التي منحتهم التراخيص دون رقابة مالية.
 

تداعيات اجتماعية خطيرة
   
تؤدي هذه الظواهر إلى تدمير النسيج الاجتماعي المحلي، حيث تتسبب في خلافات عائلية، وانتحار بعض الضحايا، وتفكك أسر بأكملها بعد فقدان مدخراتها، كما ينتج عنها فقدان ثقة أكبر في الدولة، وتعميق مشاعر الغضب واليأس.

ووفق بيانات مركز "بصيرة" لعام 2023، فإن 63% من المصريين لا يثقون في قدرة الحكومة على حماية أموالهم أو تنظيم السوق المالية، وهي نسبة مرشحة للارتفاع بعد كل قضية مستريح جديدة.

ظاهرة "المستريح" ليست مجرد جريمة فردية، بل عرض مزمن لانهيار ثقة المواطن المصري في مؤسسات الدولة، وغياب الشفافية والرقابة، وفشل النظام في معالجة جذور الأزمة الاقتصادية، وبينما ينشغل الإعلام الرسمي بتبرئة الحكومة، يزداد المواطنون فقرًا، ويتحول الطمع إلى يأس، والاستثمار إلى فخ، والمستقبل إلى كارثة تنتظر الانفجار.