في 9 يونيو 2025، أصدر قائد الانقلاب العسكري عبد الفتاح السيسي قرارًا جمهوريًا بتشكيل «مجلس التنسيق الأعلى المصري - السعودي»، برئاسته ورئاسة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، القرار أتى وسط أزمة اقتصادية متفاقمة في مصر، ومحاولات يائسة لخلق مظهر من التماسك الإقليمي والسياسي.
يأتي تشكيل المجلس الجديد بعد أكثر من عقد من التوترات والتقلبات بين القاهرة والرياض، من الدعم الاقتصادي السعودي المباشر إلى تقليص المساعدات وتحول العلاقات إلى نوع من "الابتزاز السياسي"، بحسب ما وصفه أحد الدبلوماسيين السابقين المصريين في تصريح لـ"مدى مصر" عام 2023.
القرار يوحي بمحاولة مصرية لإعادة التموضع في قلب المعادلة الخليجية، إلا أن المراقبين يشيرون إلى أن التحركات الحالية تندرج ضمن نهج رد الفعل وليس المبادرة، ما يعكس عمق التخبط في السياسة الخارجية المصرية في عهد السيسي.
من الاستقلالية إلى التبعية
شهدت العلاقات المصرية السعودية منذ 2013 موجات من الدعم المادي الكبير، حيث قدمت السعودية والإمارات والكويت نحو 25 مليار دولار خلال أول عامين من حكم السيسي بعد الانقلاب على الرئيس الشهيد محمد مرسي، إلا أن هذه المساعدات بدأت تتقلص تدريجيًا، خاصة بعد تصريحات ولي العهد محمد بن سلمان في أكتوبر 2022 التي قال فيها إن "الرياض لن تستمر في دعم اقتصادات فاشلة لا تقوم بإصلاحات جذرية"، في إشارة ضمنية إلى مصر.
ورغم ذلك، لم تُظهر القاهرة أي قدرة على إجراء إصلاحات حقيقية، بل زادت التبعية للتمويل الخليجي، خصوصًا بعد توقيع اتفاقيات بيع أصول وشركات مصرية لصناديق سيادية خليجية مقابل قروض قصيرة الأجل أو ودائع لا تدخل الإنتاج، بل تُستهلك في سداد فوائد الديون، التي تخطت 165 مليار دولار بنهاية 2024، وفق بيانات البنك المركزي المصري.
تشير البيانات إلى أن الاستثمارات السعودية في مصر تتراوح بين 6.1 إلى 6.3 مليار دولار موزعة على نحو 2900 مشروع، مقابل استثمارات مصرية في السعودية بقيمة 1.1 مليار دولار فقط، هذا الفارق الكبير يعكس تبعية مصر الاقتصادية للسعودية، وهو ما يضع النظام تحت ضغط مستمر لتقديم تنازلات سياسية وأمنية مقابل استمرار هذه التدفقات المالية.
اتفاقية "حماية الاستثمارات السعودية" التي تمنع المصادرة أو التأميم تؤكد هذا التبعية، حيث تقيّد مصر سيادتها الاقتصادية وتمنح المستثمرين السعوديين ضمانات غير مسبوقة، مما يثير مخاوف من فقدان السيطرة على موارد وطنية مهمة.
المجلس الأعلى.. مظهر بلا مضمون
فيما يبدو القرار بإنشاء «مجلس التنسيق الأعلى» كمؤشر على "تعميق التعاون الثنائي"، إلا أن طبيعة المجلس وغموض مهامه توحيان بأن الغاية الحقيقية منه هي تهدئة التوتر السياسي والاقتصادي مؤقتًا بين الجانبين، وقد أشار الخبير الاقتصادي الدكتور عبد الخالق فاروق إلى أن "مصر لا تملك أوراق تفاوضية حقيقية مع الخليج سوى الأصول العامة التي تُباع بثمن بخس".
لم تُعلن أي بنود واضحة لاختصاصات المجلس الجديد، ولا جدول زمني، مما يُرجّح أن يكون المجلس إطارًا شكليًا لتنسيق بيع أصول أو منح استثمارات مشروطة، وسط حالة من الغضب الشعبي المتزايد داخل مصر بسبب الخصخصة المفرطة والتقشف المتصاعد.
تصريحات المسؤولين المصريين والسعوديين تعكس إدراكاً ضمنياً بضعف النظام المصري، فقد أكد السفير بسام راضي، المتحدث الرسمي باسم رئاسة الانقلاب، على ضرورة التنسيق الحثيث مع السعودية لمواجهة التطورات الإقليمية، ما يعكس اعترافاً ضمنياً بعدم قدرة مصر على مواجهة هذه التحديات بمفردها.
كما أن رئيس حكومة الانقلاب مصطفى مدبولي أعرب عن تطلع الحكومة المصرية لتفعيل المجلس الأعلى التنسيقي، مما يدل على أن النظام يعتمد على الدعم السعودي كركيزة أساسية لاستمراريته.
هذه المواقف تعكس هشاشة النظام السياسي والعسكري في مصر، الذي يعاني من عزلة داخلية وضغوط خارجية متزايدة.
انفجار اجتماعي مؤجل؟
اقتصاديًا، يعيش المصريون واحدة من أسوأ مراحلهم المعيشية منذ عقود، فقد بلغ معدل التضخم السنوي 32.5% في أبريل 2025، وارتفعت أسعار السلع الأساسية بأكثر من 120% منذ فبراير 2022، في ظل تدهور قيمة الجنيه المصري الذي تخطى حاجز 55 جنيهًا للدولار، وفق تقرير البنك الدولي، القرار الأخير لا يقدم حلولًا مباشرة للمواطن، بل يُنذر بمزيد من الاعتماد على الخارج، ما يكرّس النموذج الريعي غير الإنتاجي.
وقد حذر اللواء الأسبق سامح سيف اليزل قبل وفاته من "أن الاستقرار الظاهري هش، وأي هزة اقتصادية قد تؤدي لانفجار اجتماعي غير محسوب"، ومع ذلك، تُصر السلطة على تعتيم الإعلام المحلي، وتحجيم أي نقاش جاد حول الاقتصاد، وتركّز على استعراضات شكلية كمشروعات الطرق والكباري.
الفشل المستمر في كسب الدعم الشعبي والسياسي
قرار السيسي الأخير يعكس أزمة شرعية سياسية متراكمة، إذ تفتقر إدارته لأي دعم شعبي حقيقي، كما أن مؤسسات الدولة المدنية أصبحت مجرد واجهات شكلية، ووفقًا لتقرير "فريدم هاوس" لعام 2024، تراجعت مصر إلى تصنيف "غير حر" بحد أدنى من الحريات السياسية.
في البرلمان، الذي يعاني من غياب المعارضة الحقيقية، لم يُطرح القرار للنقاش، بل تم تمريره كما تمر جميع القرارات الرئاسية، ما يفاقم العزلة السياسية الداخلية ويزيد من اعتماد النظام على الخارج لتثبيت سلطته، وهي استراتيجية محفوفة بالمخاطر كما أثبتت تجارب سابقة.
مصر بين التبعية والفشل الهيكلي
في ضوء الأزمة الاقتصادية والسياسية، يبدو أن مجلس التنسيق المصري السعودي لن يكون أكثر من محاولة يائسة لتجميل مشهد داخلي منهار دون إصلاحات هيكلية حقيقية، تشمل إنهاء عسكرة الاقتصاد، وفتح المجال العام، واستقلال القضاء، فإن أي اتفاقات اقتصادية أو سياسية لن تجلب سوى مزيد من الارتهان والتآكل السيادي.
يرى المحلل السياسي عمرو حمزاوي المنتقل من داعم للانقلاب ثم معارض ثم استقر إلى مؤيد لنظام السيسي أن "السياسة المصرية تحولت من مشروع وطني إلى نمط إدارة أزمة دائمة، وأن الأزمات لا تُحل بالشكل، بل بالتحول الجاد نحو الشفافية والحكم الرشيد"، وهي كلمات تلخص وضع مصر الراهن تحت حكم السيسي: إدارة فاشلة، وسلطة بلا رؤية.