في زمن تتقلص فيه الرقابة ويتمدّد النفوذ السيادي، يبرز جهاز "مستقبل مصر للتنمية المستدامة" بوصفه أحد أكثر الكيانات الاقتصادية تمدّداً وغموضاً في المشهد المصري.
فالجهاز الذي أُنشئ في 2022 بقرار رئاسي، وتحت مظلة القوات الجوية، تجاوز خلال ثلاث سنوات فقط حدود دوره المُعلن، ليصبح قوة اقتصادية ضخمة تشرف على استثمارات بمليارات الدولارات، دون خضوع فعلي للرقابة الشعبية أو البرلمانية.

وفقاً لتصريحات مدير الجهاز، العقيد بهاء الغنام، فإن قيمة الأصول التي يديرها الجهاز قد تصل إلى 4 مليارات دولار بحلول 2030.
لكن هذا الرقم الضخم لا يثير فقط الإعجاب، بل يفتح الباب أمام تساؤلات مشروعة عن مصادر التمويل، وآليات الحوكمة، وحدود التفويض الممنوح لهذا الكيان الوليد.
 

من أراضي الفلاحين إلى شراكات العقارات الفاخرة
   لم يعد الجهاز مجرد أداة حكومية لتحسين الإنتاج الزراعي أو تأمين سلع استراتيجية، بل تحوّل إلى ذراع استثماري عملاق.
توسّع من استيراد القمح -بعد إقصاء هيئة السلع التموينية- إلى إدارة بحيرات مصر الكبرى، فإلى إقامة مشروعات عقارية وصناعية وسياحية، ومؤخراً، إطلاق شراكات مع كبار مطوّري القطاع الخاص في مشاريع سكنية فاخرة، أبرزها مشروع "جريان" العقاري على مساحة 1600 فدان بمحور الشيخ زايد، بمشاركة شركات مثل "بالم هيلز" و"ماونتن فيو".

اللافت أن بعض هذه المشروعات تُنفّذ عبر شركات أسسها الجهاز مع "جهات سيادية"، مثل شركة "Nations of the Sky"، المالكة لأرض مشروع جريان، في نموذج جديد لتغوّل أجهزة الدولة في السوق العقاري، وهو قطاع يمثل تقليدياً إحدى أبرز روافد القطاع الخاص في مصر.
 

الاستيلاء على أراضي المواطنين.. شكاوى لا تصل إلى القضاء
   في الخلفية، تتوالى استغاثات المواطنين ممن يزعمون فقدان أراضيهم لصالح الجهاز.
أحدهم، عاد من الغربة ليستثمر في أرض استصلحها وزرعها، قبل أن يُفاجأ بمسؤولي "مستقبل مصر" يطالبونه بالتنازل عنها أو تأجيرها، تحت طائلة المنع من دخولها.
روايته، التي انتشرت على نطاق واسع عبر الإنترنت، ليست الوحيدة؛ ففي الأسابيع الأخيرة، امتلأت وسائل التواصل بشهادات مشابهة عن نزع أراضٍ بالقوة الجبرية.

وفي ظل غياب المحاسبة، تتحول هذه الوقائع إلى نموذج مقلق عن غياب الشفافية، وتنامي سلطة كيانات فوق القانون، تمتلك الأرض وتعيد توزيعها، دون أن تخضع للمساءلة أمام أي مؤسسة مدنية.
 

من الأمن الغذائي إلى احتكار السوق
   أُوكل إلى "مستقبل مصر" مهمة استيراد القمح، لتغذية أكبر سوق استهلاكية في العالم، بواقع 10 ملايين طن سنوياً.
ثم أُسندت إليه عمليات إعادة بيع الفائض في بورصة القمح الخاصة، ما سمح له بالتحكّم في تدفق السلع الغذائية للسوق الخاص، مستفيداً من غياب الرقابة وآليات التسعير الحرة.

وامتدت مهامه إلى إنتاج الألبان والسكر والعسل الأسود، وإقامة أكبر مصنع لإنتاج ألبان الأطفال في البلاد، بتكلفة 500 مليون دولار، بالشراكة مع القطاع الخاص.
لكن منتجي الألبان المحليين الذين تكبّدوا خسائر فادحة سابقاً بسبب سياسات حكومية خاطئة، يرون في هذه المشاريع منافسة غير متكافئة، تعيد احتكار الإنتاج لأطراف مدعومة رسمياً.
 

دولة داخل الدولة.. جهاز بميزانية مستقلة وسلطة مطلقة
   بحسب مصدر برلماني، يمتلك الجهاز ميزانية مستقلة لا تمر عبر الموازنة العامة للدولة، ويمول مشاريعه عبر تخصيصات رئاسية مباشرة، أو دعم مالي مضمون من وزارة المالية.
ومع تضاعف أرباحه، أصبح الجهاز يشبه في بنيته "جهاز مشروعات الخدمة الوطنية" التابع للجيش، لكن بسلطات موسّعة وغطاء قانوني أقل وضوحاً.

وبات الجهاز يُوصف اليوم بـ"دولة داخل الدولة"، يخطط، ينفّذ، ويستثمر بلا إشراف مالي أو تشريعي، ويبرم شراكات مع مستثمرين محليين ودوليين بمعزل عن القواعد التنظيمية المعروفة.
 

القطاع الخاص يشتكي: لا منافسة ممكنة
   مراكز بحثية مرموقة مثل "المركز المصري للدراسات الاقتصادية"، حذّرت من أن التوسّع الكبير للأجهزة السيادية في النشاط الاقتصادي يقوّض فرص القطاع الخاص.
فبينما يُطلب من المستثمرين الخواص تمويل أكثر من 60% من احتياجات التنمية، تستحوذ المؤسسات السيادية وشركاتها على أكثر من 70% من الاستثمارات العامة، معزّزة بامتيازات لا تتاح لغيرها.

ويخشى خبراء من أن يؤدي استمرار هذا النموذج إلى قتل المنافسة، وتراجع كفاءة تخصيص الموارد، ما سيُفضي في نهاية المطاف إلى بيئة طاردة لرأس المال والاستثمار الأجنبي.
 

غياب الحوكمة وتهديد لوحدة الموازنة
   في جوهر الأزمة، تكمن فلسفة اقتصادية جديدة تقوم على إنشاء كيانات خارج الأطر القانونية والرقابية، شبيهة بما حدث في العاصمة الإدارية وشركات استيراد الغاز والوقود.
هذا التوجّه، بحسب محللين، ينسف مبدأ وحدة الموازنة العامة، ويصعّب على البرلمان والمواطنين تعقّب حركة المال العام.

ولا يتعلق الأمر فقط بجهاز جديد يمتلك الأرض والمصانع والصوامع والعقارات، بل بمستقبل النموذج الاقتصادي المصري، الذي بات يميل بوضوح إلى العسكرة والتفويض المفتوح دون محاسبة.