طه خليفة
كاتب وصحفي مصري
من حيث تريد الحكومة المصرية علاج ظلم قديم طال ملاك العقارات المؤجرة، فإنها تتجه لإيقاع الظلم نفسه بالمستأجرين في قانون جديد تعتبره حلًا لملف اجتماعي وإنساني متشابك ومعقد.
لمن أراد الإطلاع على تفاصيل الموضوع الذي يمثل بركانًا تحت رماد يمكنه قراءة مقال نُشر لي في هذا الموقع يوم 11 نوفمبر 2024.
وملخص القضية أن قوانين الإيجار جعلت أجرة المسكن ثابتة، وعقد الإيجار مؤبد، أي مستمر للورثة عند وفاة من قام بتأجير المسكن.
وفي عهد عبدالناصر تم تخفيض الإيجار، وكان الهدف من هذه القوانين والإجراءات الاجتماعية الحفاظ على المستأجر من تعسف الملاك معهم بطردهم من المساكن، أو رفع الأجرة عليهم بشكل مبالغ فيه، ورسخت ذلك التشريعات كلها وقد تم اختصارها في قانونين هما: القانون 49 لسنة 1977، والقانون 136 لسنة 1981.
حماية اجتماعية
في الظرف التاريخي للتأجير في العقود التي سبقت هذه القوانين، أو تزامنت معها، أو أعقبتها، كانت لا تزال للعملة الوطنية “الجنيه” قوة شرائية، وكانت الرواتب والدخول محدودة، ولم يكن هناك ثراء لدى معظم فئات وشرائح المجتمع.
كانت الأغلبية العظمى من المواطنين في أوضاع مالية ومادية بسيطة، ولهذا كانت فلسفة تشريعات الإيجارات هى حمايتهم من تغول الملاك عليهم.
ومن كان يقدر على شراء أرض وبناء عقار في هذه الأوقات كان يُعتبر ثريًا، والسلطات المتعاقبة كانت عينها على الطبقة الوسطى، وما يليها من طبقات ضعيفة ومحدودة الدخل وفقيرة ومهمشة، وهذا توجه لاغبار عليه بشرط ألا تكون هناك عدوانية تجاه الفئات الغنية التي تعمل وتراكم الثروات والمصالح بطرق مشروعة.
هناك نقطة مهمة تخفف من فكرة أن قوانين الإيجارات ظلمت الملاك بشدة، وربما وقعت في نفس الخطأ في دفاعي عنهم، لكنهم مع ذلك طالهم الجور، هذه النقطة أن الجنيهات الخمس مثلًا التي كانت تُدفع إيجار لشقة قديمًا كانت تمثل قيمة مالية كبيرة، كانت الرواتب قبل يوليو 1952 لاتزيد عن ثلاث جنيهات، أو خمسة، وربما أكثر من ذلك قليلًا للموظف في بداية مربوطه المالي.
وتحسنت الرواتب والدخول بعد 1952، لكنها لم تزد كثيرًا، ومعظم فئات المجتمع كانت تواجه مصاعب معيشية، لكن كون السلع الأساسية متوفرة، وأسعارها محدودة، جعل الحياة تسير من عبدالناصر إلى السادات ثم مبارك، وحتى بعد ثورة يناير وإلى إخراج مرسي من الحكم في يوليو 2013، وبعد ذلك حصلت متغيرات كبرى في تراجع الجنيه وارتفاع الأسعار والغلاء والتضخم.
إذن، عندما يكون إيجار شقة 5 جنيهات، أو 10، أو 20 أو أكثر من ذلك، فيما مضى فإنها مبالغ سخية وفق وضع العملة والأسعار في الماضي.
تكلفة بناء فيلا أم كلثوم مثلًا بلغت 6 آلاف جنيه بالتشطيبات، اليوم هذا المبلغ لا يشتري بابًا مصفحًا لشقة، بالكاد يشتري باب خشب، ووفق سعر الجنيه الذهب وقت بناء الفيلا عام 1938 فإن هذا المبلغ يساوي اليوم 44 مليون جنيه.
انقلاب في الحياة
هنا المشكلة والعقدة والأزمة والانقلاب الدراماتيكي في الحياة بمصر في مختلف المجالات وكافة أوجه الحياة، وليس في إيجارات المساكن فقط، أو تكاليف بناء بيت أو شقة أو عمارة.
اليوم حتى تشتري أو تبني بيتًا، أو شقة صغيرة فأنت بحاجة لملايين الجنيهات في ظل ضعف الجنيه، والارتفاع الجنوني في أسعار مواد البناء والتشطيبات والعمالة، وهستيريا الأسعار التي لم تترك أي شيء إلا وتداهمه بعنف، ثم من أين الحصول على هذه الملايين أصلا؟، ولهذا ننتقد مشروع قانون الحكومة بشأن تحرير العلاقة الإيجارية لأنه يلحق ظلمًا بالمستأجرين، وهم بالملايين، ويُدخلهم في مأزق، ويهدد الاستقرار الاجتماعي.
تحرير العلاقة الإيجارية
القانون سيحرر العلاقة الإيجارية التي تمت قبل عام 1996، الإيجارات بعد هذا التاريخ تخضع للقانون رقم 4 لسنة 1996، الذي يجعل العلاقة حرة بين الطرفين في مدة العقد والقيمة الإيجارية.
المحكمة الدستورية قضت في 9 نوفمبر الماضي بعدم دستورية تثبيت أجرة المساكن في القانون 136 لسنة 1981، وكانت قضت في عام 2002 بعدم دستورية تأبيد عقد الإيجار وجعلته لوريث واحد بشرط أن يكون مقيمًا في الوحدة مع عائلته، وبعد رحيله أو وفاته ينقضي العقد ويسترد المالك وحدته.
المشكلة في مشروع القانون الجديد أنه سيرفع الأجرة فور إقراره بشكل كبير، مهما كانت الأجرة الحالية 5 أو 10 أو 15 جنيهًا مثلًا، فإنها ستزيد ولن تقل عن ألف جنيه، ثم ترتفع طوال فترة انتقالية مدتها 5 سنوات، وبعدها يسترد المالك مسكنه.
ومع هذا فالمشكلة الأخطر تتمثل في الفترة الانتقالية، لنقل إن المستأجر سيتحمل دفع الألف جنيه، وكذلك الزيادة الـ 15% سنويًا، لكن عند مغادرته المسكن بعد 5 سنوات، كيف يمكنه تدبير البديل؛ إيجارًا أو تمليكًا، في ظل الأسعار الخرافية في الأجرة أو التمليك مما لا يقدر عليه أحد، حتى لو كان دخله كبيرًا؟
لو كان تم سن هذا القانون وقت قوة الجنيه، وأسعار التأجير والتمليك المعقولة، لم يكن المستأجرون يشعرون بأزمة مؤرقة.
وإذا تم تطويل الفترة الانتقالية إلى 7 سنوات أو 10، وليس 5، فالمعضلة ستظل قائمة طالما قيمة العملة تتراجع، والأسعار في صعود ناري، والاقتصاد متعثر، والوضع المعيشي يتدهور.
والحل أن تقدم الحكومة وحدات سكنية لمن سيغادرون مساكنهم بشرط أن تكون بأسعار معقولة وتسهيلات جادة وحقيقية، وألا تكون بعيدة عن الأماكن التي عاشوا فيها، رغم أن هذه النقطة صعبة التحقق.
الحياة كانت تُحتمل بحلوها ومرها في عهود سابقة، لكنها لم تعد كذلك، فالمرار بلا سقف، والأزمات تتزايد وتتعقد، وما كان علاجه متاحًا وممكنًا بالأمس، لم يعد كذلك اليوم.