في الوقت الذي كانت فيه ماكينة الدعاية الإسرائيلية تروج لانتهاء العمليات الكبرى في رفح، وتسوق وهم "السيطرة العملياتية الكاملة" على الأرض وما تحتها، جاءت "عملية النفق" الأخيرة لتقلب الطاولة على رؤوس جنارالات تل أبيب. لم تكن الحادثة التي وقعت شرقي رفح مجرد اشتباك تكتيكي عابر، بل كانت "صفعة استراتيجية" مدوية على وجه لواء النخبة "غولاني"، ورسالة بالنار والدم تؤكد أن المقاومة الفلسطينية، وبعد أشهر من القصف الوحشي والحصار المطبق، لا تزال تمتلك زمام المبادرة، والقدرة على التخطيط المعقد، والجرأة على تنفيذ عمليات "المسافة صفر" التي تعد كابوساً لكل جيش نظامي.
العملية التي نفذتها خلية مكونة من ثلاثة مقاتلين خرجوا من باطن الأرض كالأشباح، واشتبكوا مع مدرعة "نمر" المحصنة، ثم انسحب أحدهم بسلام، لم تسفر فقط عن إصابة خمسة جنود بجروح خطيرة، بل أصابت "عقيدة الأمن" الإسرائيلية في مقتل، كاشفة زيف الادعاءات حول تدمير البنية التحتية للمقاومة، ومثبتة أن رفح – التي ظن الاحتلال أنه طوعها – لا تزال بركاناً نشطاً يبتلع الغزاة.
بين أنين "النخبة" ودماء "المسافة صفر": حصيلة الاشتباك
أسفرت العملية عن إصابة خمسة جنود من لواء "غولاني" — نخبة سلاح المشاة في جيش الاحتلال — بجروح متفاوتة، حيث وصفت المصادر العسكرية الإسرائيلية حالة بعضهم بـ "الخطرة"، ما استدعى إجلاءهم العاجل من الميدان وسط تغطية نارية كثيفة، في مشهد يعكس حجم الضرر الذي أحدثته العبوة الناسفة والقذائف المضادة للدروع التي اخترقت تحصينات مدرعة "النامر".
وفي المقابل، أعلن الاحتلال عن استشهاد مقاتلين اثنين بعد خوضهما اشتباكاً ضارياً من مسافة قريبة جداً، بينما نجح المقاتل الثالث في الانسحاب والعودة إلى شبكة الأنفاق بسلام، تاركاً خلفه رفيقيه اللذين ارتقيا بعد أن أثخنا الجراح في صفوف العدو، ومخلفاً لغزاً أمنياً يؤرق قيادة الجيش حول مصير هذا "الشبح" العائد الذي يحمل تفاصيل المعركة.
"صيد النمر": حينما تحطمت أسطورة المدرعة الأغلى عالمياً
لعل أخطر ما في هذه العملية هو تفاصيلها التكتيكية التي تعكس "شجاعة وتضحية" وحرفية عسكرية عالية. استهداف ناقلة الجند "نمر" (Namer)، التي يفاخر الجيش الإسرائيلي بأنها الأكثر تحصيناً وتطوراً في العالم، لم يتم بصاروخ موجه من مسافة آمنة فحسب، بل اعتمد على تكتيك "الالتحام المباشر".
اقتراب المقاتلين لمسافة تسمح بـ "لصق عبوة ناسفة" على هيكل المدرعة يعني شيئاً واحداً في العرف العسكري: أن الجندي الفلسطيني كسر حاجز الخوف تماماً، وبات يرى في دبابات "الميركافا" ومدرعات "نمر" مجرد توابيت حديدية متحركة. هذا الاختراق الأمني للدائرة الضيقة المحيطة بالقوة الإسرائيلية يمثل فضيحة عسكرية للواء "غولاني"، الذي يُفترض أنه نخبة النخبة، حيث فشلت كل منظومات الاستشعار والمراقبة في رصد المقاتلين قبل وصولهم إلى جسم المدرعة، ما حول التكنولوجيا الإسرائيلية الفائقة إلى "خردة" عاجزة أمام إرادة المقاتل الفلسطيني.
الفشل الاستخباراتي المزدوج: "العيون العمياء" في رفح
تضع هذه العملية علامة استفهام ضخمة بحجم الفشل الاستخباراتي الإسرائيلي. فمنذ أشهر، يزعم جيش الاحتلال أنه يمتلك "خرائط دقيقة" لشبكة الأنفاق في رفح، وأنه دمر معظم العقد القتالية الرئيسية. لكن خروج المقاتلين من "فتحة نفق" في منطقة تُصنف عسكرياً بأنها "مؤمنة" و"ساقطة عسكرياً"، ينسف هذه الرواية من أساسها.
هذا الاختراق يعني أمرين كارثيين بالنسبة لقيادة الأركان الإسرائيلية:
1. العمى المعلوماتي: إسرائيل لا تعرف حقاً ما يدور تحت الأرض، وشبكة الأنفاق لا تزال فعالة وتسمح بنقل المقاتلين والعتاد وحتى المناورة الهجومية خلف خطوط العدو.
2. فشل التطهير: عمليات التمشيط والتجريف الهائلة التي حولت رفح إلى ركام لم تفلح في تحييد الخطر، بل وفرت بيئة ركامية مثالية للمقاومة لممارسة حرب العصابات.
عودة "الشبح" إلى النفق: الكابوس الذي لا ينتهي
رغم إعلان الاحتلال عن استشهاد اثنين من المنفذين، فإن تفصيلة "انسحاب الثالث وعودته إلى النفق" تشكل بحد ذاتها هزيمة نفسية ومعنوية للجيش الإسرائيلي. عودة المقاتل إلى باطن الأرض تعني أن الخلية لم تكن "انتحارية" بالمعنى العشوائي، بل كانت تنفذ خطة انسحاب مدروسة.
هذا المقاتل العائد يحمل معه "معلومات استخباراتية" عن رد فعل القوة الإسرائيلية، وعن نقاط ضعف المدرعة، وعن تمركز القوات. كما أن نجاته تبقي "باب الجحيم" مفتوحاً في ذهن كل جندي إسرائيلي يقف في رفح؛ فالأرض التي يقفون عليها قد تنشق في أي لحظة لتخرج منها قوة جديدة. هذه الحالة من "اللايقين" هي التي تستنزف معنويات الجيش وتخلق حالة من الهسيتريا والاستنزاف المستمر الذي لا تستطيع إسرائيل تحمله طويلاً.
ما بعد الضربة: رفح ليست نزهة، والاحتلال يغرق في رمالها
سياسياً، تأتي هذه العملية في توقيت حرج للغاية لبنيامين نتنياهو وحكومته المتطرفة، الذين يحاولون تسويق فكرة أن الحرب انتهت عملياً وأن ما تبقى هو "جيوب معزولة". إصابة خمسة جنود دفعة واحدة، بينهم حالات خطرة، تعيد الجدل المحتدم داخل المجتمع الإسرائيلي حول "جدوى البقاء" في غزة، وثمن هذا البقاء من دماء الجنود.
الرسالة التي خطتها المقاومة بالبارود في رفح واضحة: الهدوء النسبي أو وقف إطلاق النار المؤقت لا يعني الاستسلام. المقاومة انتقلت من مرحلة "الدفاع عن البقاء" إلى مرحلة "إدارة الاستنزاف"، حيث تختار الزمان والمكان لتوجيه ضربات جراحية دقيقة.
الخلاصة:
إن ما حدث شرقي رفح ليس مجرد حدث أمني، بل هو إعلان فشل لمشروع "السيطرة الأمنية" على القطاع. لقد أثبتت المقاومة أن التكنولوجيا لا تهزم العقيدة، وأن المدرعات المحصنة لا تحمي من بأس الرجال، وأن رفح، التي أرادها الاحتلال مقبرة للمقاومة، تحولت بفضل التخطيط والجرأة إلى مقبرة لغطرستهم العسكرية وأوهامهم السياسية.

