تمادت إسرائيل كثيراً في اعتداءاتها على سورية الجديدة هذه المرّة، إذ قصفت مقاتلاتها محيط القصر الرئاسي في دمشق، واعتبر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في بيان مشترك مع وزير الأمن يسرائيل كاتس، أن القصف "رسالة واضحة إلى النظام السوري. لن نسمح بنشر قوات (سورية) جنوب دمشق أو بتهديد الطائفة الدرزية بأيّ شكل".
لم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ من الصلف والغطرسة، بل استمرّ التصعيد الإسرائيلي عبر قصفت المقاتلات الإسرائيلية سبعة مواقع عسكرية في ثلاث محافظات سورية، في اعتداء هو الأوسع منذ بداية إبريل/نيسان الماضي.
ولعلّ السؤال الذي يُطرح هنا: إلى متى ستستمرّ الاعتداءات الإسرائيلية على سورية، وما الرسائل التي تريد إرسالها إسرائيل من ورائها؟ والأهم: ماذا في وسع الرئيس السوري أحمد الشرع فعله حيال تكرار هذه الاعتداءات؟
بداية، استهدفت إسرائيل منذ إسقاط نظام الأسد الأصول العسكرية للجيش السوري السابق، وكانت تتذرّع بأن اعتداءاتها بمثابة عمليات استباقية، كي لا تقع الأسلحة بيد السلطات الجديدة التي تعتبرها "مجموعاتٍ إرهابيةً".
ولم تكتفِ بذلك، بل توغّلت في المنطقة العازلة، لاغيةً من طرف واحد اتفاق فضّ الاشتباك الموقّع في 1974، وأنشأت منطقةً عازلةً واسعةً شملت معظم مناطق محافظة القنيطرة، ثم امتدّت إلى مناطقَ في محافظة درعا، وبعدها وصلت إلى محافظة السويداء، إذ حاول الخطاب الإسرائيلي تأسيس سردية جديدة تنهض على حجّة واهية وزائفة، تتمثّل في حماية دروز سورية، منصّبةً نفسها محامياً للأقليات فيها، ومهدّدةً باستهداف أيّ قوات سورية تدخل المحافظة.
وبلغ التمادي الإسرائيلي نقطةً قصوى باستهداف رتل لقوى الأمن العام كان متّجهاً إلى بلدة أشرفية صحنايا، ثمّ باستهداف محيط القصر الرئاسي، بعد أن تمكّنت السلطات السورية الجديدة من احتواء المواجهات الدامية التي شهدتها بلدتَا جرمانا وأشرفية صحنايا، وامتدّت إلى مناطقَ في محافظة السويداء، ووقّعت مع الفعّاليات الروحية والاجتماعية فيهما اتفاقاً، يقضي بتسليم الأسلحة للسلطات المختصّة، وانتشار قوى الأمن العام فيهما.
تريد إسرائيل توجيه رسائل عديدة، أهمّها أنها تريد أن تُبقي السلطات السورية الجديدة تحت الضغط والابتزاز، مستغلّةً الوضع الكارثي على جميع الصعد، الذي خلّفه نظام الأسد، وبالتالي، تريد منعها من استعادة عافيتها، ومن بسط سيادتها في كامل التراب السوري، خاصّة المنطقة الجنوبية في سورية، لأنها لا تخفي مساعيها الرامية إلى فصل الجنوب عن الجسم السوري الجديد، على الرغم من أن الغالبية الساحقة من السوريين في الجنوب يعتبرون أنفسهم جزءاً أصيلاً من الوطن السوري، ويعتزّون بالهُويَّة السورية، ويقفون ضدّ أيّ تدخّل إسرائيلي، ما عدا قلّة من الأصوات في السويداء، ممثلةً بالشيخ حكمت الهجري وأتباعه، إذ تعارض توجّهاتهم غالبية أبناء المحافظة.
وقد قدّم اجتماع الفعاليات والزعامات الروحية والعسكرية في السويداء أخيراً رسالةً مناهضةً المسعى الإسرائيلي، من خلال "رفض التقسيم أو الانسلاخ أو الانفصال"، وتأكيد أن أبناء السويداء سوريون بالأصالة والهُويَّة، والتمسّك "بوحدة السوريين تحت راية وطن واحد".
على المستويين الإقليمي والدولي، تريد حكومة اليمين المتطرّف الإسرائيلية توجيه رسالة إلى الولايات المتحدة وتركيا ودول الإقليم، أن لمصالح إسرائيل وأمنها الأولوية القصوى، ولا يمكن تجاهلها أو التغاضي عنها، على الرغم من الموقف المساند لتركيا الذي أبداه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أخيراً، بحضور نتنياهو في البيت الأبيض، وطالب فيه الأخير بضرورة أن يكون منطقياً.
يكمن الهدف الأساس للمشروع الإسرائيلي في سورية، ليس في تفتيتها وتقسيمها جغرافياً فقط، بل أيضاً تفتيتها اجتماعياً وسياسياً، إذ أراد مسؤولو حكومة دولة الاحتلال الإيحاء أن اعتداءاتهم جاءت تلبيةً لدعوات بعض الأصوات لحماية الدروز، وبالتالي، تأليب باقي المكوّنات الاجتماعية السورية عليهم، لكن الأمر لن ينطلي على غالبية السوريين، الذين تستحضر ذاكرتهم نضالات سلطان باشا الأطرش وسواه من المناضلين في سبيل تحرّر سورية ووحدتها.
لا تملك السلطات السورية خياراتٍ كثيرة للردّ على التصعيد الإسرائيلي، بالنظر إلى التحدّيات الكثيرة التي تواجهها، والتركة الثقيلة التي خلفها نظام الأسد البائد، وحوّلها كومةً من الركام والدمار.
وعليه، جاء الردّ الأولي في بيان الرئاسة ليؤكّد سعيها الحازم إلى "منع أيّ تهديدات قد تستهدف أمن الوطن والمواطنين"، معتبراً أن الهجمات الإسرائيلية "استهداف لمؤسّسات الدولة وسيادتها وللأمن الوطني ووحدة الشعب السوري"، لكنّ ذلك لا يكفي، بل يستلزم الردّ على الصَلَف الإسرائيلي العمل في عدّة مستويات، من بينهما مطالبة الدول العربية والصديقة باتخاذ موقف ضدّ الصلف الإسرائيلي، وتشكيل موقف دولي عام ضدّه في المؤسّسات الأممية، لكن الأكثر أهمية المستوى الداخلي، الذي يتطلّب من السلطات الجديدة العمل لتحصين الداخل السوري، وتمتين اللحمة الوطنية، من خلال تعميق الحوار مع الفعاليات المدنية والسياسية في كافّة أنحاء سورية، وعدم الركون فقط إلى التفاهم مع الزعامات الدينية والعسكرية، إذ لم تنجح السلطات الجديدة في فرض الاستقرار وصون السلم الأهلي، لأنها لم تلجأ إلى الأدوات السياسية، بل اعتمدت على حلول عسكرية موضعية، الأمر الذي زاد من حدّة القلق والاستياء بين فئات واسعة من السوريين، وأضعف قدرة القيادة السورية على تحقيق التوافق الوطني، في ظلّ الانقسامات الاجتماعية الموروثة، والصراعات التي تضعف محاولة المصالحة الوطنية.
ولعلّ المطلوب داخلياً تأسيس أحزاب سياسية من أجل إيجاد مخارج للنزاعات والاختلافات، لأنها تؤمّن فضاءً عامّاً يمكن للسوريين التعبير من خلاله عن آرائهم وتطلّعاتهم المحقّة، بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية والإثنية. وليس جديداً القول إن التعدّدية السياسية مفتاح الحوار بين الناس، لأنها تمنحهم فرصة للمشاركة الفعلية في صنع القرار، والمساهمة في بناء بلدهم، بدلاً من البقاء في هامش المشهد السياسي.
يأمل غالبية السوريين في أن يتّخذ الرئيس الانتقالي أحمد الشرع حلولاً سياسية للإشكالات القائمة، بغية تحصين الداخل، وإكسابه مناعةً مطلوبةً لمواجهة تدخّلات إسرائيل، وسواها من القوى الرافضة للتحوّل السوري الجديد.
ولعلّ المسؤولية التاريخية يتحمّلها هو بدرجة كبيرة، خاصّة حيال الشعب، إذ يتوجّب الاعتماد عليه لمواجهة التحديات الداخلية كلها، والتصدّي للمخطّطات الإسرائيلية، وسواها.