ما زالنا نستكمل مذكرات العلامة الدكتور يوسف القرضاوي "ابن القرية والكتاب .. الجزء الثاني" لنقف على أهم المحطات الحياة سيرة الدكتور يوسف القرضاوي منذ ولادته في القرية ووفاة والده وتربية في بيت العائلة، ثم التحاقه بالكتاب والتعليم الابتدائي والثانوي والمرحلة الجامعية، وتعرضه لكثير من المحن والابتلاءات لمواقفه الرافضه للاستعمار والاستبداد، والتي تنوعت بين الاعتقال والمنع من التعيين واستكمال الدراسة في الأزهر، والتعنت في السماح له بالسفر إلى قطر، والسماح أخيرا بالسفر إلى الدوحة لتبدأ حياة أخرى مليئة بالأحداث في حياة العلامة الراحل، ثم العودة لأرض مصر، حاملا شوقا كبيرا إلى نفحات مصر ونسائمها.

 

العودة إلى القاهرة صيف 1962م

بعد سنة كانت هي رحلة عمل وأداء فريضة الحج رجع الشيخ العلامة يوسف القرضاوي لأرض مصر، حاملا شوقا كبيرا إلى نفحات مصر، ونسائمها، فقد مضى عاما ملأه العمل الشاق والحضور اللافت ما بين تطوير المعهد الذي تولى إدارته وخطب الجمعة وعمله الدعوي بالإضافة لنشاط مكثف في رمضان بين إلقاء الدروس وإمامة المصلين بصلاة التروايح والتهجد، لينتهي هذا العام، عائدا لأرض الوطن.

يقول العلامة: بعد أن انتهت السنة الدراسية (1961، 1962م) كان لا بد من العودة إلى القاهرة، بعد عناء سنة دراسية، وبعد رحلة الحج، وكنت في شوق إلى مصر لأمرين:

الأول: أن ألحق بزوجتي وبناتي، فقد سافروا إلى مصر، قبل رحلتي إلى الحج، وهم يعيشون وحدهم في القاهرة، إذ كان أهلي في قريتي صفط تراب، وأهل زوجتي في سمنود، ولا غرو أن أقلق عليهم، وأريد أن أطمئن على أحوالهم.

الثاني: أن حر صيف قطر، قد أصابنا ببعض لفحاته الساخنة، فغدونا في اشتياق إلى نفحات مصر، ونسائم مصر التي ترد الروح في ذلك الوقت من السنة، وكان جو مصر في منتصف الشهر السادس من «يونيو» أقرب إلى الربيع منه إلى الصيف، وكان في شقتنا «بلكونة» شمالية «بحرية» نبرد إذا جلسنا فيها بعد العشاء، وهو ما تغير في هذا الزمن تمامًا.

 

مرض الأخ محمد الدمرداش ووفاته

وتحدث العلامة القرضاوي عن ألم جديد عند عودته إلى مصر، إذ استقبل بخبر مرض صديقه، فيقول: "كانت مفاجأة قاسية بالنسبة لي، حين سألت زوجتي: ألم يسأل عني أحد في هذه الفترة من الأقارب أو الأصدقاء؟

قالت زوجتي وهي مرتبكة ومتألمة: لم يعرف أكثر الناس: أني والأولاد هنا، فلم يزرنا إلا القليل، ولم يسأل عنا أيضًا إلا القليل؛ لاعتقاد الجميع أننا في قطر، لكن الذي سأل عنك منذ يومين هو عبد اللطيف مراد شقيق محمد الدمرداش مراد، وقد جاء وأنا خارج البيت، وترك ورقة يقول فيها: إن شقيقه الدمرداش، يعاني مرضًا شديدًا، وهو شبه مشلول، ويرقد في مستشفى الدمرداش بالقاهرة.

كان وقع هذا الخبر عليَّ كوقع الصاعقة، فهو خبر لم أكن أتوقعه بحال، ولم تكن له عندي أية مقدمات، وقد تركت الدمرداش حين سافرت إلى قطر: أنضر ما يكون شبابًا، وأصح ما كان جسمًا، وأقوى ما كان عزمًا، وكنت أتخيله يترقب وصولي على أحر من الجمر، لنكثف اللقاءات، ونجدد الذكريات، فإذا بهذه الأحلام تتبخر أمام هذا الواقع المرير.

وبعد زيارتين كان القدر أسرع مني، فقد تركت الدمرداش مساء الزيارة الأخيرة، وفي صباح الغد سافرت إلى القرية، لألتقي بالأقارب كلهم، وقد فرحوا بقدومي فرحة الظمآن بالماء العذب البارد، ولكن ساعات الصفاء والسرور لا تدوم كثيرًا، فما كدنا نبيت ليلة في منزل الحاج إبراهيم ابن عمي، ونلتقي الأقارب، ونقضي يومًا معهم طاعمين ناعمين مبتهجين، إلا وقد جاءني ما كنت أحسه وأخافه، وإن لم أصرح به وهو موت أخي محمد الدمرداش".

 

المفاجأة الثانية في إجازة الصيف

ولم يمنع سفر الدكتور القرضاوي إلى قطر من الاعتقال، حيث روى الإمام الحدث المؤلم الآخر والمفاجأة الثانية في إجازة الصيف التي يقضيها في مصر: وأنا في بيت خالي قد جاء واحد من قبل عمدة القرية، وهمس في أذنه: إنهم في دوار العمدة يحتاجون إلى فضيلة الأستاذ، لمدة خمس دقائق. ورأيت وجه خالي قد تغير واكفهر، فسألته: ماذا في الأمر؟ فأخبرني الخبر. فقلت له: لا بأس، أذهب إلى دوار العمدة، وهي فرصة للسلام عليه، ولبست حلتي الإفرنجية «البذلة» مستعدًا لهذا اللقاء.

وعندما ذهبت إلى دوار العمدة قالوا: الحقيقة أن مركز المحلة هو الذي طلب الأستاذ. وهم ينتظرونه عند المحطة، حتى لا تحدث ضجة في البلد، وأمر العمدة بعربة «الحنطور» أن توصلني إلى المحطة.

 

الاستدعاء إلى مباحث طنطا

ويضيف: "عند ذهابي إلى المحطة، قام أحد الضباط بمرافقتي وقال إننا متجهون للقاهرة وركبت معه سيارة الشرطة «البوكس» ليوصلني إلى المكان المقصود: ومعه عدد من الشرطة الحراس بأسلحتهم، وقد ركبت مع الشرطة في الخلف، حتى خرجنا من المدينة، فأمر الضابط السائق بالوقوف، ثم جاء إليَّ فناداني باسمي، وطلب إليَّ أن أركب إلى جواره بالأمام، وتأسف لي أن اضطرته الظروف أن يقودني في هذه الرحلة، قلت له: لا داعي للأسف، فأنت تؤدي واجبك.

ووصلنا إلى القاهرة، وسلمني إلى مكان معين، ومن هذا المكان نقلني إلى موضع آخر، ومنه إلى مكان هو السجن الحربي، ولنا به نسب وصلة قديمة، وقد وصلت إليه مع تباشير الفجر، ووضعت في زنزانة من زنازين الحربي التي جربناها طويلًا من قبل، وفي الصباح ألقوا إليَّ بقطعة خبز جافة صلبة كأنها الحجر، ولا أذكر هل كان معها إدام أو لا؟ ولم يكن عندي رغبة في تناول أي طعام.

ثم ما لبث أن جاء حلاق السجن، وعرض عليَّ أن يحلق لحيتي، فأبيت، وظل الرجل يلح عليَّ أن يحلقها لي حتى لا تسبب لي الأذى، كما سببت لآخرين، كلفوا أن ينتفوها بأيديهم، وما زال هذا الحلاق يغريني ويحذرني؛ حتى سلمت له لحيتي فحلقها، وكنت قد عدت لإطلاقها عند سفري إلى قطر، بعد أن اضطررت إلى حلقها قديمًا (نوفمبر 1954م) قبيل اعتقالي.

وما هي إلا ساعات، حتى نودي عليَّ للرحيل إلى مكان آخر، وركبت سيارة عسكرية وجدت فيها أخي أحمد العسال، بعد أن جاءوا به، دون أن يستطيع أحدنا أن يكلم الآخر، وأخذنا إلى مبنى المخابرات.

وقضينا هناك 7 أسابيع لم نسأل سوى عن شخصين هما الضابط محمود يونس، وعبد العزيز كامل وعرفت بعدما أفرج عني أنهما كانا متهمان بقلب نظام الحكم بالاتصال بالمشايخ السلفية وانني والعسال كانا اللذان مولا هذا الانقلاب بأموال الخليج، لكن هذا الانقلاب كان من وحي خيال من لفقه حيث تم تبرئة جميع المتهمين الذين اعتقلوا ظلما، بحجة هذا الانقلاب".

 

الاعتقال الأصعب

ووصف الدكتور يوسف فترة الاعتقال التي لم تتجاوز 50 يوما بأن أكثر الفترات صعوبة وقسوة على قلبه لعدة أسباب على الرغم من عدم تعرضه لأي إيذاء نفسي أو بدني، حيث قال:  الحق أن هذه الفترة التي اعتقلت فيها، وإن لم تطل كثيرًا، فقد استمرت نحو سبعة أسابيع أو خمسين يومًا، كانت من أشد الفترات قسوة على نفسي، رغم أني لم أُمس فيها بإيذاء بدني، ولا بأي آلة من آلات التعذيب، لكنها مرت بطيئة ثقيلة، فيومها بشهر، وليلها بدهر، وكان هذا الاعتقال الذي آكل فيها الكباب شديد الوطأة عليَّ، على خلاف اعتقالاتي السابقة في عهد الملكية (1949م)، وعهد الثورة أوائل (1954م)، وأواخرها، وهو الاعتقال الذي استمر نحو عشرين شهرًا في السجن الحربي.

 

فما سر هذه الشدة والقسوة؟

يجيب الدكتور القرضاوي: "أعتقد أن سر ذلك يرجع إلى جملة أسباب أساسية:

أولًا: إني أخذت في هذا الاعتقال غدرًا، بلا تقدمة، ولا سبب أعرفه، وقديمًا قالوا: إذا عُرف السبب بطل العجب، وأنا لم أعرف سببًا قريبًا ولا بعيدًا لاعتقالي، إنما أخذت من الدار إلى النار، كما يقولون، وبهدومي التي عليَّ.

ثانيًا: كان الاعتقال في المرات الماضية ضمن مجموعات كبيرة من الإخوان، فالإنسان يعزي نفسه بالتأسي بهم.

ثالثًا: إن اعتقالي هذه المرة، وأنا زوج وأب، غير اعتقالي فيما مضى، وأنا خالٍ من المسئولية،  فقد كنت دائم التفكير في زوجتي وبناتي الصغيرات، اللاتي تركتهن في القرية، واختطفت من بينهن فجأة، ولا أدري ما وقع هذا الأمر عليهن؟ وماذا فعلت زوجتي؟ هل عادت إلى القاهرة أو لا؟ وهل علم أهلها بما حصل أو لا؟ وكيف واجهت الموقف وحدها؟ لا بد أنها مهمومة بأمري، وبخاصة أني فارقتها بالملابس التي على جسدي، إلى غير ذلك من التساؤلات الكثيرة التي كانت تشغل بالي وتؤرقني في هذا الاعتقال دون الاعتقالات الماضية.

رابعًا: إن أقسى ما في هذا الاعتقال هو: الحبس الانفرادي، فقد كان السجن الحربي -على مرارته وقسوته- نعيش فيه مجموعات في داخل الزنازين: سبعة أو ثمانية. وكان في هذه الزحمة رحمة، وفي هذا التكدس إيناس لنا، وتهوين لما نحن فيه من بلاء، حيث يأنس كل منا بأخيه، ويتأسّى به، ويأخذ القوي بيد الضعيف، ويتعلم كل منا من إخوانه، فيصبر الجزوع، ويتشجع الجبان، ويرضى الساخط.

 

إفراج

ولم نقل شيئًا، وخرجنا من المكان الذي عرفنا من قريب أنه مبنى المخابرات، وكان بعيدًا عن العمران وسط المزارع، بمنطقة قصر القبة أو سراي القبة، وإن كان اليوم قد أحاط به العمران من كل جانب، وتعانقت أنا والعسال عناقًا حارًّا، بعد أن غادرنا باب المخابرات، وودّع كلانا أخاه؛ لأنه سيأخذ مواصلة غير مواصلتي.

ولم أجد في جيبي غير خمسة قروش، ولا أدري أكان معي نقود أكثر، وضاعت في «الأمانات» التي لا تؤدى إلى أهلها في السجن الحربي، كما ضاع قلم «باركر» كان معي، أم ربما لم يكن معي نقود ساعة أخذوني؟ على أية حال، حمدت الله على القروش الخمسة، فهي تكفيني أجرة للأوتوبيس الذي يوصلني إلى العباسية، ثم أركب ترام (21) من العباسية إلى شبرا.

ومن حسن حظي: أني حين ركبت «الأوتوبيس» وجدت أحد إخواني وتلاميذي بالمحلة الكبرى، وهو الأخ عصمت عبد الرحمن، وقد فوجئ بي، وهو يعلم أني كنت معتقلًا، فسألته: أمعك شيء من النقود؟ فقال: معي نصف جنيه، فقلت: أعطني إياه. وهنا فكرت أن آخذ سيارة أجرة «تاكسي» من العباسية، بدل الترام الذي يأخذ مدة طويلة، حتى يوصلني، وأنا شديد الشوق إلى أهلي وبناتي، بعد هذه المدة، وتمنيت لو كان لي جناحان لطرت طيرًا إلى منزلي".

 

اللقاء بصلاح نصر

ويواصل الشيخ قائلا: "جاء موعد سفرنا إلى قطر في منتصف سبتمبر، ولم يؤذن لنا بالسفر، وبدأ العام الدراسي، ولم نتمكن من مغادرة مصر، وعدنا -أنا والعسال- لمباشرة عملنا في المكتب الفني لإدارة الوعظ والإرشاد بالرواق العباسي بالأزهر، ولم تكفّ وزارة المعارف في قطر عن إرسال البرقيات إلى الأزهر وإلى الوزير المسئول عن الأزهر السيد حسين الشافعي عضو مجلس الثورة، للسماح لنا بالسفر لمباشرة عملنا هناك.

ويبدو لي أن هذه البرقيات وصلت إلى إدارة المخابرات التي كان على رأسها: رجل الاستخبارات الشهير صلاح نصر، وفوجئنا يومًا باستدعائنا -العسال وأنا- لمقابلة صلاح نصر في مكتبه في إدارة المخابرات في المبنى الذي كنا ضيوفًا عليه سبعة أسابيع.

وقابلنا صلاح نصر بمنتهى الحفاوة وقال: إني سمعت كثيرًا عن إخلاصكما ونشاطكما وسمعتكما الطيبة في سائر الأوساط في الداخل والخارج، وإننا نعتبركم سفراء لبلدكم، ونريد أن نبدأ صفحة جديدة في التعاون من أجل مصر، وخير مصر، وتقدم مصر".

وقال: إن همزة الوصل بيننا هو واحد منكم تعرفونه ويعرفكم، هو الأستاذ محمد نجيب جويفل، وسيرتب معكم طريق الاتصال بكم، وسأصدر الأوامر برفع الحظر عن سفركم، ويمكنكم أن تستعدوا للعودة إلى قطر متى شئتم.

شكرنا صلاح نصر، وهل كان يسعنا إلا أن نشكره، وإن أخطأت إدارته في اعتقالنا باعترافه! ولو كنا في بلد ديمقراطي لوجب أن يحاكم من أخطأ في اعتقالنا، بلا سبب ولا مبرر، وإذا كان أخطأ في الاعتقال، فلماذا لم يعالجه بسرعة الإفراج عنا؟ ولكن إهدار حقوق الإنسان، وحرية الإنسان، وقيمة الإنسان، جعلت أمثال هؤلاء لا يبالون بسجن من سجنوا، واعتقال من اعتقلوا، وإن استوثقوا أنهم برآء من كل ما ينسب إليهم براء الذئب من دم ابن يعقوب".

 

استدعاء المباحث بالداخلية

وقبل سفرنا إلى الدوحة استدعاني الضابط أحمد راسخ، بالمباحث العامة بوزارة الداخلية، كما استدعى العسال، كل منا على حدة، وقد سألني عما حدث لنا في الاعتقال في المخابرات، وما التهمة الموجهة لنا؟

فقلت له: أنتم أدرى بما وقع لنا، لقد نزلنا ضيوفًا على جماعة أكرمونا وأطعمونا الكباب! ثم اعتذروا إلينا أخيرًا، أما تهمتنا، فالحق أنه لم توجه إلينا أية تهمة، وإنما وجهوا إلينا أسئلة لا تتضمن أي اتهام، ولا ندري في الحقيقة: لماذا وجهت إلينا؟ وعلى عادة راسخ طلب ألا ننساه ولو برسالة في العيد، وعلى عادتي لم أبعث إليه في عيد، ولا غير عيد.

 

العودة لقطر وزيارات قصيرة لدول الخليج

وسافرت أنا والعسال إلى قطر، لنمارس عملنا بها، ونشاطنا فيها من جديد، وركبنا الطائرة، وغادرنا القاهرة، ووصلنا بعد انطلاق العام الدراسي بشهر أو أكثر.

وأهم الأحداث التي وقعت في هذه السنة الدراسية:

1- زيارة البحرين والإمارات عمان.

2- زيارة السعودية مع طلبة المعهد في إجازة نصف السنة.

3- تأليف كتب مدرسية حديثة في العلوم الشرعية.

 

صيف عام 63

لم أنزل إلى مصر وتركت زوجتي وأولادي هم من غادروا حاملين معهم أشواقي إلى أقاربي وأصدقائي،  وزاروا الأهل والأقارب، كما زارهم الأهل والأقارب، وبعدوا عن جو الدوحة اللاهب في فصل الصيف، وإن قالوا هم: إن وجودنا في حر الصيف خير من افتراقنا، ولكني كنت أحسب حساب الأطفال، وحقهم في الاستمتاع بجو أفضل وأروح، لأبدانهم ونفوسهم.

وبعد شهر من عودة الأسرة إلى الدوحة، جاءنا رزق جديد، وأشرق في بيتنا نور جديد، فقد ولدت ابنتي الرابعة: أسماء، في منتصف أكتوبر (1963م).

 

أول سيارة وأول حج مع أم البنات

وفي السنة الدراسية (1963 - 1964م) اقتنيت أول سيارة في حياتي، وهي سيارة «مرسيدس» من طراز (190) كحلية اللون، وكان هذا تطورًا مهمًّا، فقد كانت أدوات التنقل في قريتنا - بالنسبة إلينا - تنحصر في اثنتين: 1 – الأرجل    2 - الحمير.

وبعد سنتين من حجي الأول بمفردي: اجتهدت أن أحج أنا والعائلة، وقد فكرتْ مجموعة من المدرسين وموظفي وزارة المعارف في قطر، أن نخرج باعتبارنا بعثة من وزارة معارف قطر، وترسل الوزارة إلى وزارة معارف السعودية لتؤدي لنا بعض الخدمات، مثل: إعطائنا مدرسة في مكة 1384هـ، وأخرى في المدينة. وكلمنا الوزارة في ذلك، فرحبت بالفكرة، وكلفتني برئاسة البعثة، وخاطبت الجهات المسئولة في معارف السعودية، ورحبوا بنا ووعدوا أن يقدموا لنا من التسهيلات ما يساعدنا على أداء مناسكنا بيسر وسهولة.

دراسات عليا في الأزهر ورسالة الدكتوراه

ويقول الشيخ في مذكراته: "كان من الأمور التي تهمني وتشغل بالي، وأنا في قطر: ما يتعلق بدراستي العليا في الأزهر، ورسالتي للدكتوراة، فكنت أتابع الأمور من قطر، لأعرف ماذا جرى.

وقد عينتْ إدارة كلية أصول الدين مشرفًا جديدًا، يشرف على رسالتي من أساتذة الكلية، بعد وفاة مشرفي الأول الشيخ أحمد علي ححح، كان المشرف الجديد هو أحد شيوخي في الكلية، الذي درّسني مقرر التفسير في أكثر من سنة، وهو فضيلة الأستاذ الشيخ محمد أمين أبي الروس.

 ولكن شاء الله أن ينتقل الشيخ أبو الروس إلى رحمة الله تعالى، قبل أن أكمل المشوار معه، مع ما لمسته فيه من جدية وإيجابية.

وكان على الكلية أن تختار لي مشرفًا آخر، يحل محل الشيخ أبي الروس، فاختارت في هذه المرة أستاذًا من أساتذة الحديث، فالقسم الذي سجلت فيه: يشمل التفسير والحديث معًا، ذلكم هو فضيلة الأستاذ الشيخ عبد الوهاب البحيري ححح، الذي رفض أن يشرف على الرسالة لما فيها من آراء واجتهدات.

لكن عندما نزلت إلى القاهرة في صيف سنة (1964م) أخطرتني الكلية أن ألقى الشيخ البحيري لأتفاهم معه على ما يريده من تعديل. وبالفعل سألت عن منزل الشيخ، وكان قريبًا مني في شارع شبرا الرئيسي، وزرته في بيته، فرحب بي وأحسن استقبالي، وجلسنا نتحدث بمودة ومحبة، كما يتحدث الأستاذ مع تلميذه، ورحبت بتعديلاته.

وقطعنا شوطًا لا بأس به في الرسالة، وقرب أوان السفر، والعودة إلى قطر، وقال لي: تستطيع أن تراجع الرسالة بنفسك على هذه الطريقة التي تفاهمنا عليها، وأنت أمين نفسك، ولديك من الإمكانات الذهنية والعلمية ما يمكنك من إتمام الرسالة على هذا النحو وحدك.

وسافرت إلى قطر، ثم عرفت بعد فترة قصيرة: أن الشيخ البحيري أعير إلى العراق، ليدرّس الحديث في إحدى جامعات بغداد، ومعنى هذا: أنه لم يعد قادرًا على الإشراف على رسالتي! ولا بد لإدارة الكلية أن تبحث عن مشرف جديد".

 

صيف 1965 والتعرف على العديد من العلماء

مرحلة الانفتاح على العالم  دقت أبواب العلامة بسفره إلى لبنان لقضاء الإجازة الصيفية، وعن هذه المرحلة قال العلامة: كان السفر إلى بيروت نقلة مهمة بالنسبة لي للخروج من قمقم قطر، والانفتاح نسبيًّا على العالم؛ فقد استفدت صحيًّا وجسميًّا من مصايف لبنان الجميلة، وما فيها من خضرة ونضرة ونعمة، واستفدت فكريًّا واجتماعيًّا بما لقيت من علماء ودعاة ومفكرين وناشرين.

فقد تعرفت، على عدد من رجال الدعوة لأول مرة، مثل الأستاذ عصام العطار، وعلى الدكتور حسن الترابي زعيم الحركة الإسلامية في السودان، وكذلك تعرفت على الإخوة رجال الدعوة في بيروت: الكاتب الداعية الأستاذ فتحي يكن، والقاضي الداعية الشيخ فيصل مولوي، والصحفي الداعية إبراهيم المصري.

وتعرفت أيضًا على عدد من العلماء، منهم عالم حلب ومحدثها العلامة المحقق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، ومنهم محدث الشام العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني.

كما قابلت أكثر من صاحب دار نشر منهم الأستاذ سعيد العبار صاحب "دار العربية"  ومنهم الأستاذ رضوان دعبول، صاحب "مؤسسة الرسالة"، وفي بيروت اتفقت مع "دار الإرشاد" لنشر كتابين لي، هما: "العبادة في الإسلام" و"الإيمان والحياة".

 

العودة للدوحة ومحنة اعتقال نجانا الله منها

بعدما ودعت الإخوة في لبنان بعد أن قضيت هذا الشهر في ربوعه، وعدت بأسرتي إلى الدوحة، قابلتني أخبار مهمة ومقلقة؛ فقد قبض على 10 من الإخوان في مصر الذين كانوا يعملون في قطر، والذين لهم صلة بي، وكان الجيش هو الذي يشرف على الاعتقال والتحقيق، بإشراف وزير الحربية شمس بدران، ومَن وراءه من ضباط القوات المسلحة، التي خاضت معركة لا مبرر لها مع أبناء شعبها، بدل أن تتجه إلى العدو الذي يهدد وجودها على حدودها الشمالية.

وبالتحقيق مع الإخوة العاملين في قطر، وسؤالهم عن التنظيم الإخواني فيها.. اجتمعت كلمتهم -دون توافق- على أنه لم يوجد تنظيم في قطر، بل كان لقاء أسبوعيا بعد صلاة الفجر في كل يوم جمعة في بيت من بيوت الإخوة، نقرأ فيه الأدعية المأثورة، وقد تلقى كلمة روحية، ثم يتناول الجميع الفطور معا، وينصرفون بعد ذلك.

وبعدما ثبت عدم وجود تنظيم فلا يوجد رئيس ولا ممول ولا إشتراك مالي، ولا بيعة، صدقهم المحققون؛ وأفرج عن عدد كبير منهم  وسمح لهم بالرجوع إلى الدوحة، بينما لم يفرج عن  الشيخ عبد اللطيف زايد، والشيخ محمد المهدي البدري، والأستاذ أحمد المنيب، والذين ظلوا في الاعتقال عدة سنين.

ومما فوجئنا به كذلك اعتقال صهري شقيق زوجتي: الأستاذ سامي عبد الجواد، الذي أخذوه من عمله، وكان يرأس مأمورية الشهر العقاري بمدينة زفتى، وكان حديث العهد بالزواج، وقد رزق طفله الأول منذ أسابيع، وكان وقع اعتقاله شديدا على زوجته وعلى والدته، التي صدمها هذا الاعتقال صدمة عنيفة.

والحمد لله أني لم أكن بمصر، ولم أنزل إليها في ذلك الصيف، وعافاني الله من تلك المحنة التي كانت أقسى من محنة 1954م، ولو كنت نزلت في تلك الإجازة لأُخذت كما أخذ إخواني، وتحقق ما كان يخشاه صهري والد زوجتي، حينما خطبتها، وقال لحماتي أم سامي: أتريدين أن يؤخذ ابنك وزوج ابنتك جميعا؟ فالحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين.

أما محنة الإخوان في سنة 1965م التي نجانا الله منها، وعلم أن فينا ضعفا، وما فيها من أهوال وكروب تخر لها الجبال هدا، فحديثنا عنها إن شاء الله نرجئه إلى الجزء الثالث، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب".