أجرى الحوار "حنين أحمد - أعده للنشر "فارس أحمد"

ذكر "كساب" في حواره معنا أن الابتلاء ثلاث أنواع ذكرهم الاصفهانى، وأن من معاني البلاء "لاختبار والامتحان، والتجريب والاجتهاد، والكشف والظهور، والفناء والمعرفة، وهو اختبار الخلق من الله، وهذا البلاء قد يكون بالخير، وقد يكون بالشر.

وعن أنواع الابتلاء قال للبلاء أنواع، وهذا يختلف باختلاف المرء، ودرجة إيمانه، وعن حكمة الابتلاء قال تحقيق العبودية لله رب العالمين، إذ العبودية لله لا تظهر حقيقتها إلا إذا أظهر العبد ذله وانقياده في العسر كما في اليسر.

وعن التفريق بين البلاء والعقوبة ذكر البلاء يتعلق بالمستقبل لا الماضي في الأغلب، لأنه قد يحدد مكانة العبد عند ربه، أما العقوبة فأكثر تعلقها بالماضي السيء عند العبد، فلا عقوبة بغير ذنب.

وأضاف عن الحكمة من الابتلاءات التي يبتلى الله بها المؤمنين تحقيق العبودية لله رب العالمين، تكفير الذنوب وتمحيص الخطايا، البلاء يظهر حقيقة البشر لأنفسهم، فتظهر حقيقتهم لأنفسهم، {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}.

1- ما هو الابتلاء؟
البلاء من بلى، وبلوته أي اختبرته
ومعاجم اللغة تفيد بأن من معاني البلاء
: الاختبار والامتحان، والتجريب والاجتهاد، والكشف والظهور، والفناء والمعرفة..... وهو اختبار الخلق من الله، وهذا البلاء قد يكون بالخير، وقد يكون بالشر، قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } [الأنبياء: 35]، وقد جاءت التكاليف الشرعية بمثابة نوع من أنواع الابتلاء، وذلك لأمور ثلاثة ذكرها الأصفهاني في (مفردات ألفاظ القرآن) :
- أحدها: أن التكاليف كلها مشاق على الأبدان، فصارت من هذا الوجه بلاء.


- والثاني: أنها اختبارات.
- والثالث: أن اختبار الله تعالى للعباد تارة بالمسار ليشكروا، وتارة بالمضار ليصبروا، فصارت المحنة والمنحة جميعا بلاء، فالمحنة مقتضية للصبر، والمنحة مقتضية للشكر.


وما الفرق بينه وبين الابتلاء؟
هناك بلاء وابتلاء، والفرق بينهما أن البلاء يكون للمسلم والكافر، فأما المسلم فيكون بالطاعات والتكاليف، قال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124]، ويكون البلاء أيضا للمسلم بسبب عصيانه وخطئه، وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ».


وأما الكافر فيكون لكفره وفجوره، قال تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: وتلك طبيعة الحياة الدنيا.... {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4].
لكن الابتلاء أخص وأدق، فهو لا يكون إلا للمسلم، وهو للطائع أكثر منه للعاصي، فالله يبتلي عبده ليمحصه من ذنوبه ومعاصيه، التي هي أوساخه وأدرانه.


2-ما أنواع الابتلاء ودرجاته ؟
للبلاء أنواع، وهذا يختلف باختلاف المرء، ودرجة إيمانه:
فقد يكون لمحو الذنوب والخطايا، وفي الصحيح: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُوعَكُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا؟ قَالَ: «أَجَلْ، إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلاَنِ مِنْكُمْ» قُلْتُ: ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ؟ قَالَ: «أَجَلْ، ذَلِكَ كَذَلِكَ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى، شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا سَيِّئَاتِهِ، كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا».


وقد يكون رفعا للدرجات، وهذا كما هو في شأن الأنبياء، فعند ابن ماجه عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ مَوْعُوْكٌ عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَيْهِ , فَوَجَدْتُ حَرَارَتَهَا فَوْقَ الْقَطِيفَةَ، فَقُلْتُ: مَا أَشَدَّ حَرَّ حُمَّاكَ يَا رَسُولَ اللهِ , فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّا كَذَلِكَ , يُشَدَّدُ عَلَيْنَا الْبَلَاَءُ وَيُضَاعَفُ لَنَا الْأَجْرُ " , فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ , مَنْ أَشَدُّ النَّاسِ بَلاَءً؟ , قَالَ: " الْأَنْبِيَاءُ " , قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟، قَالَ: " ثُمَّ الْعُلَمَاءُ " , قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ , قَالَ: " ثُمَّ الصَّالِحُونَ، كَانَ أَحَدُهُمْ يُبْتَلَى بِالْفَقْرِ , حَتَّى مَا يَجِدُ إِلَّا الْعَبَاءَةَ يَلْبَسُهَا، وَيُبَتَلَى بِالْقَمْلِ حَتَّى يَقْتُلَهُ , وَلأَحَدُهُمْ أَشَدُّ فَرَحًا بِالْبَلاَءِ , مِنْ أَحَدِكُمْ بِالْعَطَاءِ "، وعند أحمد: عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً؟ قَالَ: " الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ، فَالْأَمْثَلُ مِنَ النَّاسِ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلابَةٌ زِيدَ فِي بَلائِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ خُفِّفَ عَنْهُ، وَمَا يَزَالُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ لَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ " والله تعالى يقول: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 3].


وقد يكون البلاء عقوبة من الله للعبد، روى أحمد في مسنده: عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ، وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلَّا الْبِرُّ".


3-.ما هي الحكمة من الابتلاءات التي يبتلى الله بها المؤمنين ؟‍
أما الحكمة من الابتلاء فهي كثيرة، ويمكن الإشارة إلى بعضها:
اولا :
تحقيق العبودية لله رب العالمين، إذ العبودية لله لا تظهر حقيقتها إلا إذا أظهر العبد ذله وانقياده في العسر كما في اليسر، وفي الضيق والشدة كما في الفرج والسعة، والله تعالى يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ } [الحج: 11]، فالعبد المؤمن في الشدة والضيق يجأر إلى ربه، ويهرع إليه ويستعين به، فتظهر عبودية التوكل واليقين والثقة في الله سبحانه.
رفع الدرجات، فقد روى مسلم عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ شَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ بِهَا دَرَجَةً، أَوْ حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً».


ثانيا:
تكفير الذنوب وتمحيص الخطايا، وفي المسند عند أحمد: عن عبد الله بن مغفل أن رجلا لقي امرأة كانت بغيا في الجاهلية فجعل يلاعبها حتي بسط يده اليها فقالت المرأة مه فان الله عز وجل قد ذهب بالشرك_
وَقَالَ عَفَّانُ مَرَّةً: ذَهَبَ بِالْجَاهِلِيَّةِ - وَجَاءَنَا بِالْإِسْلَامِ. فَوَلَّى الرَّجُلُ، فَأَصَابَ وَجْهَهُ الْحَائِطُ، فَشَجَّهُ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: " أَنْتَ عَبْدٌ أَرَادَ اللهُ بِكَ خَيْرًا. إِذَا أَرَادَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَجَّلَ لَهُ عُقُوبَةَ ذَنْبِهِ، وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ شَرًّا أَمْسَكَ عَلَيْهِ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ عَيْرٌ " .


ثالثا
التعجيل بالتوبة، فالعبد إذا وجد بلاء من الله أدرك أن معصية وقع بها فوجبت عليه التوبة، والله تعالى يقول: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } [الشورى: 30]، ويقول: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165].


رابعا
في البلاء تذكير بنعم الله على العبد، وتفضيله على كثير من خلق الله تعالى، {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]، وبعض الناس لا يدرك نعمة الصحة إلا إذا مرض، ولا يدرك نعمة الولد إلا إذا فقده، ولا يدرك نعمة الأمن إلا إذا أخافه عدو غشم، أو سلطان جائر..


خامسا
في البلاء إظهار لمحبة العبد لربه، ومحبة ربه له، لك أن رضا العبد بما قسمه الله له من خير أو شر يجعله عند الله محبوبا، روى الترمذي عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ العُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ»، وروى عنه أيضا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ»: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ».


سادسا
البلاء يظهر حقيقة البشر لأنفسهم، فتظهر حقيقتهم لأنفسهم، {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179]، وليس في سابعا
البلاء إظهار شيء لله، فهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، لكن بهذا البلاء تظهر حقيقة البشر لأنفسهم حتى إذا كان يوم القيامة شهدت عليهم أعضاؤهم: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور: 24، 25]، كما تظهر للبشر حقيقة غيرهم لهم، فكم من بلاء أظهر الصديق المنتفع الكذوب، وأظهر الصديق المحب الصدوق.


سابعا
في البلاء إظهار لطبيعة الدنيا وحقارتها، فما جعلها الله دار راحة، بل هي دار هم غم، روى مسلم عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ»، وفي الصحيحين: عنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ، فَقَالَ: «مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا المُسْتَرِيحُ وَالمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ قَالَ: «العَبْدُ المُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالعَبْدُ الفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ العِبَادُ وَالبِلاَدُ، وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ»، والشاعر يقول:
جبلت على كدر وأنت تريدها صفوا من الأقذار والأكدار
ومكلف الأسام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار
وقال آخر:
إياك والدنيا الدنية إنها دارٌ إذا سَالَمتَها لم تسلمِ
وأخيرا: فالبلاء مقدمة لتمين أهل الإيمان، وقد سئل الشافعي: أيمن للرجل أم يبتلى؟ قال لا يمكن له حتى يتبلى... والله تعالى يقول: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ } [العنكبوت: 2]..


4- كيف نفرق بين الابتلاء والعقوبة ؟
الحديث عن العقوبة والبلاء والفرق بينهما يطول؛ لكن يمكن اختصار ذلك في نقاط محددة:
البلاء يتعلق بالمستقبل لا الماضي في الأغلب، لأنه قد يحدد مكانة العبد عند ربه، أما العقوبة فأكثر تعلقها بالماضي السيء عند العبد، فلا عقوبة بغير ذنب.


البلاء يشمل كل خلق الله، لأن الله ما خلق الخلق إلا لهذا، قال تعالى: { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (الملك: 2)،
أما العقوبة فلا تكون إلا لمن أساء مع الخلق أو الخالق سبحانه، وعند الترمذي عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ العُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ».
البلاء قد يكون بذنب، وبغير ذنب؛ لكن الغالب فيه الاختبار للعبد؛ هل يصبر العبد أم يجزع، أما العقوبة فهي لذنب وقع، قال تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت: 40].


البلاء يصاحبه حب من الله للمبتلى، وفي البخاري: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ»، وعند الترمذي عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ» أما العقوبة فمعها الغضب لا الحب ولا الرضا، قال تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ } [الدخان: 29].


هل ما يتعرض له أهل الحق الان ابتلاء أم عقوبة عن ذنب ما ؟
لا شك أن أهل الحق الآن في محنة عظيمة، إذ أنهم يتعرضون لحملة شرسة يراج منها القضاء على الإسلام، والحق أنه الإسلام السني لا غيره، وفي القلب من هذا الإسلام السني يراد القضاء على الإسلام الوسطي، الإسلام الحضاري، الإسلام الشامل الكامل المتوازن المتعايش، الذي يسعى أصحابه إلى تحقيق التعايش مع الغير وإقامة الحجة على الآخر..
وأحسب أن ما يصيب أهل الحق الآن يحمل في طياته صورة البلاء والعقاب، فما حل بنا الآن قد يكون للبعض بلاء وتمحيصا واختبارا، وقد يكون لآخرين عقوبة، فمن كان مقصرا في عمله وواجبه فما هو فيه صورة من العقوبة، والله تعالى يقول: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } [الشورى: 30]، وهذا الواقع عقوبة قد يكون بلاء لآخرين أراد الله اختبار صبرهم، ومدى ثقتهم في ربهم، والله يقول: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } [البقرة: 155].


5-كيف يستفيد أهل الحق من الابتلاء في محنتهم ؟
لا شك أن في البلاء والابتلاء خير كثير ، فهو علامة على صحة الطريق، قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ } [العنكبوت: 2]، كما أنه دليل على مكانة العبد عند ربه، روى أحمد عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً؟ قَالَ: " الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ، فَالْأَمْثَلُ مِنَ النَّاسِ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلابَةٌ زِيدَ فِي بَلائِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ خُفِّفَ عَنْهُ، وَمَا يَزَالُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ لَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ "..


وهذا يترتب عليه أمور ينبغي الالتزام بها:
مراجعة الأخطاء لتجنبها، فهذه هي طبية النفس المؤمنة التي تعرف بلوم صاحبها، قال تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 1، 2]، وقد أشار الله إلى ذلك أيضا بعد حنين فقال سبحانه: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ } [التوبة: 25].
الصبر والثبات على طريق الحق، وقد كان من دعائه صلى الله عليه وسلم كما روى أحمد:" اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ".


معرفة جزاء الصبر، إذ به يهون الألم وتستشوى المصيبة، ويكفينا هنا قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]


ما الذى يحتاجه الانسان المؤمن ليتحمل الابتلاء ويصبر عليه ؟
هناك أشياء كثيرة يحتاجها المرء ليتحمل البلاء، لكن أكبر ما يحتاج إليه المؤمن ليتحمل الابتلاء:
الاستعانة بالله تعالى، فبغير الاستعانة به سبحانه تستحيل الدنيا جحيما، ويفشل الإنسان في اختبار الله له، ولهذا أمر النبي صاحبة البلاء بتقوى الله سبحانه؛ روى البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ، فَقَالَ: «اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي» قَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي، وَلَمْ تَعْرِفْهُ، فَقِيلَ لَهَا: إِنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَتْ بَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ، فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ، فَقَالَ: «إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى».


النظر في عاقبة المبتلين، وكيف حقق الله لهم الخير كل الخير في الدنيا، فيوسف عليه السلام لاقى من البلاء صنوفا، فلم يجزع ولم يسخط، فكانت عاقبته { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف: 101]....
متى يرى ثواب الصبر على الابتلاء؟
العبد قد يرى ثواب صبره في الدنيا تفريجا لكربه، وإذهابا لغمه، وتبديلا لحاله كله، قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5]، لكن العبد قد يبتلى ولا يرى ثواب صبرا في الدنيا نصرا ولا تمكينا، كما حدث لأصحاب الأخدود: {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج: 5 - 7]، وفي مسلم عن ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ َ وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ" فلا أصحاب الأخدود رأوا ثمرة صبرهم في الدنيا نصرا، ولا هذا النبي الذي يجيء يوم القيامة ومعه الرهط أو الرهيط أو الرجل أو ليس معه أحد قد رأى تمكينا في الدنيا..
لكن هؤلاء وإن لم يجدوا ثواب الصبر نصرا فقد رأوه طمأنينة في القلب، وودا من الرب سبحانه، والله تعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96]، ويقول: {لَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [الرعد: 28].


6-هل يعتبر الابتلاء فرز للنفوس واصطفاء ؟
لا شك أن في الابتلاء فرز للنفوس واصطفاء للأتقياء الأنقياء الصابرين، والله تعالى أخبر بهذا حين قال: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179.


وقد أشار صاحب الظلال إلى هذا الفرز، واعتبره ضرورة حتمية فقال: وليس من مقتضى ألوهيته، وليس من فعل سنته، أن يدع الصف المسلم مختلطاً غير مميز يتوارى المنافقون فيه وراء دعوى الإيمان، ومظهر الإسلام، بينما قلوبهم خاوية من بشاشة الإيمان، ومن روح الإسلام... وبتعبير مختصر يقتضي أن تكون طبيعة هذه الأمة من العظمة بحيث تسامي عظمة الدور الذي قدره الله لها في هذه الأرض وتسامي المكانة التي أعدها الله لها في الآخرة..
وكل هذا يقتضي أن يصهر الصف ليخرج منه الخبث. وأن يضغط لتتهاوى اللبنات الضعيفة. وأن تسلط عليه الأضواء لتتكشف الدخائل والضمائر..
ويقول ابن القيم: إن الله سبحانه اقتضت حكمته أنه لا بد أن يمتحن النفوس ويبتليها، فيظهر بالامتحان طيبها من خبيثها، ومن يصلح لموالاته وكراماته ومن لا يصلح، وليمحص النفوس التي تصلح له، ويخلصها بكير الامتحان....


هل يؤدي الابتلاء النفس الى الشوق الى الله ؟
نعم هو كذلك، فلو كان العبد في نعيم مطلق لركن إلى الدنيا ومتاعها، لكنه مع البلاء تنغص عليه الحياة، ويشتاق إلى دار لا هم فيها ولا غم ولا كدر، وفي الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا المُسْتَرِيحُ وَالمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ قَالَ: «العَبْدُ المُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالعَبْدُ الفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ العِبَادُ وَالبِلاَدُ، وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ»..
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم على فراش الموت قالت فَاطِمَةُ: وَا كَرْبَ أَبَتَاهُ، فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا كَرْبَ عَلَى أَبِيكِ بَعْدَ الْيَوْمِ"...


إن البلاء ولا شك قد يزيد من الشوق إلى الله سبحانه، ليرى العبد موعود ربه، ويلقى الأحبة الذين فارقوه من قبل على الحق صابرين صامدين، وقد كان من كلام بلال وهو يعاني شدة الموت: غدا نلقى الأحبة، محمدا وحزبه...، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي، أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَكَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَالْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَلَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ....."
والحمد لله رب العالمين..