بقلم : صادق أمين

إن المهمة الكبرى لحامل القلم و الفكر هي الكشف عن وجه الحقيقة، هذا كلام الراحل توفيق الحكيم في مقدمة كتابه " عودة الوعي " والذي أبدى فيه رأيه بعد عشرين سنة في ثورة يوليو ١٩٥٢.

و ما سأنقله لك _ عزيزي القارئ _ من نفس الكتاب لا لشيء إلا أن تدرك أن العسكر هم العسكر، و ما أشبه الليلة بالبارحة؛ و آية ذلك ما قاله توفيق الحكيم :

( كنت أظن الشعبية تنبع من القلوب أو حتى من صور الأماني و الوعود و الأوهام و الأكاذيب، و لكني ما كنت أظن حتى تلك اللحظة أنها يمكن أن تُصنع و تُؤلف تأليفاً و توزع لها أوراق هتاف كأنها نوتة موسيقية للغناء.

و مع ذلك _ و هنا العجب _ كيف استطاع شخص مثلي أن يرى ذلك و يسمعه، و أن لا يتأثر كثيراً بما رأى و سمع، و يظل على شعوره الطيب نحو عبد الناصر .. أهو فقدان الوعي؟! أهي حالة غريبة من التخدير؟!!!! بعد أن جعلتنا أجهزة الدعاية الواسعة بطبلها و زمرها و أناشيدها و أغانيها و أفلامها، نرى أنفسنا دولة صناعية كبرى و رائدة العالم النامي في الإصلاح الزراعي و أقوى قوة ضاربة في الشرق الأوسط ، و كان وجه الزعيم المعبود و هو يملأ شاشة التليفزيون و يطل علينا من فوق منصات السرادقات و قاعات الاجتماعات و يحكي لنا الساعات الطوال هذه الحكايات، و يشرح لنا كيف كنا؟ و كيف أصبحنا؟، بلا أحد يناقش أو يراجع أو يصحح أو يعلق؛ فما كنا نملك إلا أن نصدق ثم نلهب الأكف بالتصفيق ).

ثم يكمل تحت عنوان " تنظيم التصفيق و الهتاف " : ( غير أن هذا النظام لم يكن يكتفي بالتصفيق العفوي و الهتاف المرتجل، بل إن الاعتماد الأساسي عنده على التدبير و التنظيم، و قد رأيت بنفسي و لم أصدق عيني .. قابلت ذات يوم رجلاً من أهل الريف أعرفه و سألته عن سبب وجوده في القاهرة، فقال : إنه متصل بلجنة الاتحاد الاشتراكي في قريته، و أنهم أحضروه هو و زملاء له في القطارات باستمارات سفر أو نحو ذلك للاحتشاد في استقبال الرئيس جمال عبد الناصر عند عودته من الخارج في مناسبة من المناسبات؛ لأن الاستقبال شعبي كما يقال عادةً، و إن إقامتهم و طعامهم على حساب الدولة، و أن عليه هو و زملاؤه أن يهتفوا له طبقاً للشعارات المطبوعة و الموزعة عليهم، و أخرج من جيبه _ بالفعل _ ورقة أطلعني عليها، فدهشت؛ لقد كان مكتوباً عليها بحروف مطبوعة هذه العبارات : هتاف جماعي " ناصر ناصر ناصر " .. ثم هتاف فريق " فليحيا ناصر العروبة " .. " القائد البطل " .. " زعيم الأمة العربية " ... إلخ، أشياء من هذا القبيل، و سألت : كيف يهتفون من هذه الورقة ؟! ، فقال : إن هذه الورقة لا تظهر ؛ فهي للحفظ فقط؛ حتى لا ننسى الكلمات، إنه معين لكل جماعة منهم أربطة، أول الصف أو في الوسط أو على رأس كل مجموعة يشير إليهم بالبدء، كما يحدث في كورال الموسيقى و كورس المسرحيات ).

أرأيتم _ أيها السادة _ كيف أن العسكر هم العسكر؟، و أترك لعقلك عقد مقارنة بالعسكر الجدد أصحاب عقلية ال ٥٠٪ الذين يملكون سعة في الضمير لا يفوقها إلا سعة رحمة الله، و الذين لا يملكون إلا الطعن في جهاد الأحرار و يستعدي الدنيا عليهم و إن كان لهم إنجاز فما هو إلا جرأة على التدليس تلبست أولئك الذين استسلموا للعمى السياسي؛ فانفضح أمرهم بأكثر مما أصابوا.

خلاصة القول ، إن وظيفتنا صناعة الأمل في زمن اليأس وحياكة ثوب التفاؤل إذا عرتنا رياح الإحباط؛ فتوفيق الحكيم كتب عودة الوعي و نشره بعد ٢٠ سنة بل إن خالد بن الوليد و عمرو بن العاص كلاهما آمن بعد ٢٠ سنة و غير ذلك كثير، فلا يأس في عودة الوعي إلى المغيبين و لكن علينا أن نتعامل مع الظاهرة _ كما قال الأستاذ فهمي هويدي _ مسترشدين بالحكمة الصينية التى تعتبر أن لكل مشكلة وجهين. أحدهما سلبى ويتمثل فى الأزمة، والثانى إيجابى يكمن فى العبرة. والاستسلام للأزمة هو الموقف الأضعف، أما استخلاص عبرتها والانطلاق منها نحو التصويب والمراجعة وتحصين الذات لعدم تكرار الأزمة، فذلك هو الموقف الإيجابى الذى يحول الأزمة إلى فرصة. وذلك عين السلوك المقاوم الذى يستدعى عوامل الانتصار من رحم الهزيمة.