في بيانٍ يقطر احتفاءً بارداً بلغة الأرقام، أصدر صندوق النقد الدولي شهادة امتثال جديدة لنظام الحكم في مصر، معلناً توصله لاتفاق على مستوى الخبراء يمهد الطريق لصرف 2.4 مليار دولار .
هذه الشهادة، التي قُدمت كدليل على "النمو القوي" و"الانضباط المالي"، ليست في حقيقتها إلا مكافأة للنظام على تطبيقه الأمين لوصفة الإفقار الممنهج وبيع أصول الدولة، في حلقة جديدة من مسلسل عبودية الديون الذي أغرق البلاد.
وبينما يحتفل الصندوق والمسؤولون بأرقامهم المصقولة، يكتوي ملايين المصريين بنار واقع اقتصادي لم يعد يحتمل، حيث لا يترجم "النمو" إلا إلى مزيد من الضرائب، ولا يعني "الإصلاح" إلا بيع ما تبقى من مقدرات الوطن.
نمو على الورق.. وفقر في الواقع
يتباهى بيان صندوق النقد بتحقيق الاقتصاد المصري نمواً بنسبة 4.4% وتحسن ميزان المدفوعات ، وهي أرقام تبدو في عالم موازٍ تماماً للعالم الذي يعيشه المواطن.
هذا "النمو" المزعوم لا يشعر به أحد خارج قاعات اجتماعات المسؤولين ومكاتب الدائنين. فهو نمو مدفوع بالديون، يتركز في قطاعات لا تخلق فرص عمل حقيقية، ويتزامن مع سياسات تقشفية طاحنة.
ففي الوقت الذي يتحدث فيه الصندوق عن تراجع التضخم بشكل طفيف ليسجل 10% سنوياً ، فإنه يتجاهل عمداً الأثر التراكمي لسنوات من الغلاء الفاحش الذي دمر القوة الشرائية للطبقتين الوسطى والفقيرة.
الأخطر من ذلك، هو الثمن القادم لهذا النمو الشكلي. فالحكومة، وبإيعاز مباشر من الصندوق، تستعد لإقرار حزمة "إصلاحات ضريبية" في يناير 2026، هدفها المعلن هو زيادة إيرادات الدولة بنسبة 1% من الناتج المحلي الإجمالي .
بترجمة بسيطة، هذا يعني المزيد من العبء على المواطنين والشركات الصغيرة والمتوسطة، لسد فجوة الميزانية التي خلقتها سياسات الاقتراض المفرط والإنفاق على مشاريع غير إنتاجية.
إنها معادلة واضحة: المواطن يدفع ثمن فشل النظام، بينما يصفق صندوق النقد للانضباط المالي الذي تحقق على حساب لقمة عيش الملايين.
وصفة الخراب المستمرة: بيع الأصول وتصفية الدولة
يكشف بيان الصندوق بوضوح عن جوهر الصفقة: تسريع وتيرة "الإصلاحات الهيكلية"، وعلى رأسها برنامج الخصخصة وتقليص دور الدولة .
هذه ليست دعوة للإصلاح، بل هي أمر مباشر بتسريع عملية بيع أصول الدولة التي تباطأت فيها الحكومة، مما أدى إلى تأجيل المراجعة السابقة . لقد تحولت مقدرات مصر، من شركات ومصانع وأراضٍ، إلى مجرد بنود في قائمة معروضة للبيع لسداد أقساط الديون وإرضاء الدائنين.
إن "تكافؤ الفرص" الذي يتحدث عنه الصندوق هو في الحقيقة شعار مخادع لتمكين القطاع الخاص (الأجنبي والمحلي المحظي) من الاستحواذ على ما بنته الدولة على مدار عقود.
قالت رئيسة بعثة الصندوق، فلادكوفا هولار، إن الهدف هو الانتقال "نحو اقتصاد أكثر تنافسية يقوده القطاع الخاص" . لكن ما يجري على الأرض ليس خلق اقتصاد تنافسي، بل هو تفكيك ممنهج للدولة المصرية وتحويلها من لاعب اقتصادي فاعل إلى مجرد حارس لأصول تم بيعها.
هذا النموذج، الذي يفرضه الصندوق وتنفذه الحكومة بامتثال كامل، لا يهدف إلى تحقيق تنمية مستدامة، بل إلى ضمان قدرة مصر على خدمة ديونها، حتى لو كان الثمن هو تصفية الدولة نفسها وفقدان سيادتها الاقتصادية.
عبودية الديون: مكافأة الامتثال لا شهادة التعافي
إن الشريحة القادمة من القرض، البالغة 2.4 مليار دولار من أصل 8 مليارات ، بالإضافة إلى أموال "الصلابة والاستدامة" ، ليست إنجازاً يستحق الاحتفال. إنها مجرد جرعة جديدة من المخدر المالي الذي يبقي الاقتصاد على قيد الحياة الاصطناعية، بينما تتعمق الأزمة الهيكلية.
هذه الأموال لن تذهب إلى استثمارات إنتاجية أو دعم حقيقي للمواطن، بل ستلتهمها خدمة الديون المتراكمة، وتمويل فاتورة الاستيراد التي تضخمت بسبب انهيار الإنتاج المحلي، كما رأينا في قطاع الطاقة.
لقد نجح النظام في اجتياز المراجعة ليس لأنه أنقذ الاقتصاد، بل لأنه أثبت لصندوق النقد أنه تلميذ نجيب، مستعد لتنفيذ أقسى الشروط مقابل الحصول على شهادة "حسن السير والسلوك" التي تتيح له الاقتراض مجدداً.
الاتفاق هو إقرار بفشل السياسات الحالية، ودليل على أن الحل الوحيد الذي يملكه النظام هو المزيد من نفس الدواء الذي تسبب في المرض: الاقتراض، وبيع الأصول، وإلقاء العبء على المواطنين.
إنها حلقة مفرغة من عبودية الديون، حيث كل قرض جديد هو مجرد قسط على طريق الإفلاس المحتوم.

